كتبت سطرا فعضت شفتها غيظا، ونزعت الورقة من الآلة ومزقته. حاولت العمل ثانية وأناملها ترتجف، فمزقت الصفحة الثانية، ثم الثالثة والرابعة. توقفت عن العمل وأخذت تصعد الزفرات، وشرعت تفرك يديها وجبينها علها تنتعش فتملك حواسها، ثم أخرجت من حقيبتها القلم الأحمر وعلبة المسحوق والمرآة الصغيرة، فدهنت شفتيها وطلت خديها وهي تحاول أن تزدري همها وتنسى ما حل بها.
وكانت رفيقتها تنظر إليها شذرا، وتضحك في سرها هازئة، ثم همست في أذن الكاتب كلمة فأجابها قائلا: ولا ريب بذلك، لم تنم الليلة البارحة.
أما الكاتب هذا، فكان قد استطلع خبر لوسيل، عملا بإشارة المدير، وتحقق أمرها، فنهض حين رآها في هذه الحال ودخل على المدير يقول: يظهر أن هذه الفتاة مريضة أو أنها لم تنم الليلة، وهي لا تستطيع قط عملا.
فأمر المدير بأن يأتيه بحسابها، ثم ناداها إلى غرفته. - لماذا لم تجيئي إلى المكتب صباح هذا النهار؟ - كنت مريضة ولم أزل أحس بصداع شديد أليم. - الأحسن إذن أن تعودي إلى بيتك، وقد تكونين في حاجة إلى المال لتستشيري الطبيب، فهذا ما تبقى من أجرتك.
أخذت لوسيل المال وهي تشكر المدير الذي استأنف كلامه قائلا: ولم نعد في حاجة إليك.
هذا ما كانت تتوقعه، فلم تسأل المدير السبب في طردها ولا همها أمره، على أنها تيقنت أن الكاتب قد وشى بها، وفضح أمرها بعد أن تظاهر بحبها واكتسب ثقتها.
أجل، قد تحققت لوسيل السبب في طردها، وشعرت لأول مرة بحقيقة حالها وسوء مصيرها، فخرجت من المكتب وهي لا تكاد ترى ما حولها من شدة الغيظ واليأس والكمد، وذهبت توا إلى منزلها، فرمت بنفسها على السرير واسترسلت إلى البكاء، بكت كطفل فبللت الوسادة دموعها.
حياتان؛ حياة خير وحياة شر، لا تجتمعان في شخص واحد.
جلست تؤنب نفسها وهي تردد هذه الكلمات، وشرعت تفكر فيما جرى في يوم واحد من حياتها المزدوجة؛ سرق مالها، أهينت، ضربت، فقدت وظيفتها، وصاحب البيت فوق ذلك يهم بطردها إذا لم تدفع المتأخر من ثلاثة أشهر.
وماذا لديها من المال؟ خمسة دولارات فقط، خمسة دولارات لا تكفي أجرة النقل إذا أذن لها صاحب البيت أن تنقل فرشها، وإذا نقلت إلى بيت آخر، فماذا عساها تفعل؟ أتبحث عن وظيفة أخرى؟ لم يعطها المدير شهادة بحسن السلوك، ولم تزل تذكر كم قاست من العذاب أول مرة بحثت فيها عن عمل في المدينة.
صفحه نامشخص