ركب القطار تحت الأرض ولم يكن فيه تلك الساعة غير رجل واحد، فأخرج المال ليعده، عده فرحا مستبشرا وهو يردد في نفسه: كذابة، عاهرة.
ثم وضعه في جيب صدرته، وأخذه النعاس من شدة الضنك والتعب فنام، فوقعت من اهتزاز القطار قبعته على الأرض، فالتقطها رفيقه متلطفا ووضعها قربه.
ولما وصل توفيق إلى غرفته كان عقرب الساعة في قبة الكنيسة مائلا إلى الرابعة، فنام مطمئن النفس هادئ البال حتى ظهر اليوم الثاني، فنهض إذا ذاك يلبس ثيابه، ثم ذهب إلى المطعم ليتناول الغداء، فأكل هنيئا كما نام، ومد يده إلى جيبه ليدفع ما عليه، ففتش عن المال ثم فتش فلم يجده.
يخسر المرء نصف ثروته في الأشغال أو في القمار ولا يأسف، ويبذل الكثير في سبيل ملذاته أو في ضيافة أصحابه مسرورا، ولكنه إذا أضاع ريالا واحدا يقوم له ويقعد، ويظل أياما حائرا لا يحسن عملا .
أما توفيق زيدون فلم يكن في أية حال من الأحوال ليحسن عملا إلا إذا استثنينا القمار، وقد طالما خسر آخر فلس في اللعب وهو مالك نفسه، صابر على تمرد حظه، ولكن خمسين ريالا التقطها من غرفة حبيبته، بل سرقها ثم أضاعها بلبلت البال وشتتت منه ما بقي من آمال.
عاد إلى غرفته كالمجنون يفتش زواياها عل المال سقط من جيبه وهو ينزع أو يلبس ثيابه - وهذا معقول، إلا أن في المعقول ظنا يخطئ أحيانا - ثم فتش في جيوب أثوابه المعلقة في الخزانة كأن يدا سرية سحرية نقلت المال إليها، ثم فتش في دروج خزانة أخرى وهو لم يزل متمسكا بخيط من الأمل رفيع انقطع عند الدرج الأخير الذي لم يكن فيه غير مسدس صغير.
أخذ يدير المسدس بين يديه، ووضعه أمامه على المائدة، ثم جلس على كرسي يتأمل الماضي والحاضر من حاله؛ عشر سنوات قضاها في أميركا ولم ينجح فيها بعمل من الأعمال، شارك أخاه في التجارة فصرف فوق حصته في دوائر القمار والخلاعة وانفصل عنه، وهو يكره أخاه كرها شديدا، بل البغض متبادل متساو بين الأخوين، وأخته سليمة التي تبيع البضاعة الشرقية في المصايف طالما مدته بالمال، على أنها اعترضته يوما في أمر فتاة ولع بها فأغلظ لها الكلام وطردها من بيته. أما أصحابه، بل رفاقه في اللعب، فهو مدين لأكثرهم، ولم تعد له الجرأة أن يسألهم حاجة، والحق يقال: إن أبواب الفرج أقفلت كلها في وجه زيدون إلا بابا واحدا طرقه ليلة أمس، ولولا الصدفة لعاد من بيت لوسيل كما خرج من بيت القمار، على أن الصدف مثل الدهر متقلبة خائنة، فلم تكد تريه باب الفرج حتى أقفلته في وجهه، أعطته خمسين ريالا في آخر الليل وسلبته المال في الصباح!
الصدف؟ إنما هي يد القضاء. دخل توفيق زيدون نفسه يجدد النظر في ذكريات هناك، مثلما يعود العاشق الولهان إلى رسائل حبيبته يقرؤها ويمزقها، مزق ذكريات أخيه غير آسف عليها، مزق ذكريات أخته، مزق ذكريات ألعابه وخلاعته، محاها كلها من لوح نفسه الأسود العتيق، ولكن ذكرى أبوية استرعته فوقف عندها واليد منه ترتجف، فقد أوصته أمه قبل سفره إلى أميركا أن لا يقترب من منضدة القمار، وقد طالما قال أبوه: المال الحرام لا يثمر؛ ذلك لأن داء القمار كان متفشيا في آل زيدون في الوطن، ولكن توفيقا لم يكترث بوصية والديه، وما فكر فيها آسفا حزينا قبل هذه الساعة.
القمار، والموبقات التي هو فيها من جراء القمار، وتلك الفتاة المسكينة التي كانت تبيع جسدها لأصحابه وتقاسمه كسبها. الله منها! أتوفيق زيدون يصل إلى هذا الحد من السفالة؟ لم يكن قبل اليوم ليفكر بحقيقة فعلته، لولا خسائره في القمار لما التجأ - والحق يقال - إلى لوسيل، على أنه أفاق في هذه الساعة من سكرته، نفر من ضلالته، وود أن يبتعد عن الموبقات التي طالما خاضها طربا حبورا. انفتحت فيه فجأة عين الروح فهاله من ذلك أمره؛ رأى نفسه ابنا عاقا، رأى نفسه سافلا. يا للفضيحة ويا للعار!
جلس على الكرسي وأخذ المسدس يديره بين يديه، وبينا هو يداعب الموت؛ يراود رصاصة فيها الخلاص مما هو فيه، قرع بابه قرعات سريعة شديدة، فوضع المسدس على المنضدة وراح يفتح الباب، فإذا بلوسيل والاضطراب باد في عينيها. أخذته من رؤيتها الدهشة، بل أحس بقشعريرة في جسده كأن كأس ماء بارد سكبت على نفسه الملتهبة، فأطفأت فيها نزعة الانتحار، وردته إلى حاله كسيد الفتاة وولي أمرها، أما لوسيل فلم تمهلها أن يسأله الغرض من مجيئها، دخلت غرفته تقول: أنت لص، أنت مجرم، وقبل أن أشكوك إلى البوليس جئت أعطيك فرصة لتخلص نفسك. كذبت الليلة البارحة، فقوصصت على كذبي. خبأت ما كان لدي من مال فتلصصتني وسرقت، لم يزرني أحد سواك بعد ليلة البارحة، نعم أنت سارق مالي، وإذا كنت لا تعيده إلي الآن أشكوك إلى البوليس. - أنت مجنونة. - لا يهمني، أسألك أن تعيد إلي مالي وإلا ... - أجئت تهدديني في بيتي؟ والله لأشجن دماغك إذا كنت لا ترعوين.
صفحه نامشخص