ومضى علينا أكثر من عشرين سنة وجرائدنا ومجلاتانا تقفل بحزبية عمياء وعصبية صماء، وسقطت الصحافة المصرية بذلك، وخسرت في ذلك الحين كل شيء إلا الشرف، فصار الغنى في جانبهم والفقر في جانبنا، والوجاهة لهم والاحتقار لنا؛ وكل ذلك لأننا كنا نخلص لمصر وطننا.
وكنا نصدر الجريدة أو المجلة فلا يثق بنا تاجر ويأتمننا على إعلان واحد، وكانت تفتح الجريدة الأجنبية في مصر فتراها حافلة بالإعلانات التي تعود على أصحابها بعشرات الألوف من الجنيهات، ولكنك كنت تفتح المجلة أو الجريدة المصرية فلا تجد بها إعلانا واحدا يستحق الذكر.
وهكذا انهزمت الصحافة المصرية، وأصبح الصحفي المصري شخصا ساخطا فقيرا، أضاع ماله كما أضاع عمره في صناعة اعتقد أنه سيجد فيها المجال للخدمة الصادقة لأمته؛ فعادت عليه هذه الصناعة بخسارة العمر وخسارة المال. وكنت أينما سرت، من الاسكندرية إلى أسوان، لا تجد إلا جرائد ومجلات مصرية في النزع الذي تستقبل فيه الموت القريب.
مثل هذه الحال كان يجب أن ندرسها وأن نتعرف أسبابها، لأنها حال لم تتفق وكرامتنا الوطنية أو مصلحتنا الاقتصادية.
الصحيفة هي مرآة الأمة، مرآتها اليوم تريها نفسها كما هي الآن، ثم هي مرآتها في الغد تريها نفسها كما يجب أن تكون في المستقبل.
وهي لهذا السبب يجب ألا يقوم بها أجنبي غريب عنها في الدم أو المزاج أو الرجاء، ولكل أمة مزاجها التي تتميز به من سائر الأمم، فنحن نضحك من النكتة التي لا يضحك منها الأجنبي لأن لنا مزاجا هو خلاصة آلاف السنين من الوراثة ليس لأحد أبناء الأمم الأخرى. ولكل أمة فكاهتها التي تضحكها ولا تضحك غيرها، فقد يأخذ أحدنا مجلة بنش الإنجليزية أو سمبلسموس الألمانية ويقلب صفحاتها فلا يفتر ثغرة بابتسامة، بينما يجد الإنجليزي أو الألماني فيها ما يجعله يقهقه.
فهذا المثال البسيط يدلنا على أن لكل أمة ذوقا لا يستجيب للغريب في النكتة والفكاهة، وهي كذلك لا يمكنها أن تستجيب للغريب في الأدب أو الصحافة، بل هي إذا استجابت له في ذلك فاستجابتها برهان على أن ذوقها قد فسد ونفسها قد وهنت لطول ممارستها لهما، وهذه الصحف والمجلات الأجنبية في مصر لم تكن تعبر عن النفس المصرية أو الذوق المصري، لأننا كما نختلف عن الأجانب في النكتة والفكاهة كذلك نختلف في الروح الصحفية، ومن الإفساد الكبير لأذواقنا ونفوسنا المصرية أن نطبعها بطابع أجنبي.
ولكل أمة رجاء تقصد إليه بقلبها وعقلها، ونحن لنا رجاء الاستقلال والحرية والإصلاح الاجتماعي، وهو رجاء لا يؤنس قلب الصحفي الأجنبي، ولو أنه آنسه لكانت بلاده أولى به منا.
لقد مات مصطفى كامل فكان شبابنا يبكون في الشوارع، ومات بعد ذلك سعد زغلول فكانت نساؤنا قبل رجالنا يبكينه في البيوت، فهل بكى الأجنبي من أجل مصطفى أو سعد؟
وكان لنا مسائل اجتماعية، منها مسألة المرأة ومسألة الفلاح، وهي مسائل كانت تشعرنا بالضفة والانحطاط كلما رأينا الشقاء الذي يعيشان فيه، وكنا نحن راضيين بالتضحية والجهاد من أجل إصلاحها، فهل كان يرضى الصحفي الأجنبي في مصر بأن يضحي بشيء من ماله أو نفسه من أجل ذلك؟ كلا؛ لأن رجاءنا كان يختلف عن رجائه.
صفحه نامشخص