وهنا يجب أن نلاحظ أننا نفهم بالعين وبالقراءة أكثر مما نفهم بالأذن والاستماع، ثم تمتاز الصحيفة بعد ذلك بأنها قيد الطلب، نقرأها حين نريد بلا مواعيد معينة لا نستطيع تغييرها، نقرأها في الفراش، وفي المكتب، وفي القطار، وقت راحتنا وفراغنا دون أن نقسر على ميعاد لا يتفق وأعمالنا اليومية.
وأحسن الصحفيين هو من عمل مخبرا في بداية حياته الصحفية، وأحسن الكتاب المعلقين هو من اعتاد، لسبق خدمته في إيراد الخبر، أن يصل بين الأخبار والمقالات أو يكتب المقال الخبري أو الخبر المقالي، إذ هو عندئذ يكسب تعليقاته حيوية الخبر، ويبقى على الدوام متصلا بالمجتمع والإنسانية والبيئة، ولا يشطح في أبحاث تنأى عن اهتمامات الجمهور. أجل، ولا يحتقر الجمهور كما هو الشأن في كثير من الكتاب الصحفيين الذين لم يتمرسوا بالخبر قبل كتابة المقال.
الأدب يجب أن يكون للشعب وللإنسانية وللمجتمع، ولا نقصد بكلمة الشعب تلك العامة من الغوغاء، فننزل إلى أفرادها بمغريات وضيعة ننشد منها رواج القصة أو الكتاب أيا كان موضوعه. وإنما نؤلف للشعب كله خاصته وعامته، وهذا ما يجب أيضا أن تكون وجهة الصحيفة، بحيث تكتب للشعب لا للخاصة ولا للعامة.
بل إن الشعب الأمثل، الشعب المتمدن، يجب ألا يميز بين الخاصة والعامة؛ إذ يجب أن يؤدي نظامه الديمقراطي السوائي إلى تعميم الثقافة ورفع مستوى التعليم، بحيث لا يحتاج الصحفي، كما لا يحتاج الأديب، إلى الزعم بأنه يكتب للخاصة أو يتوسل بإغراءات وضيعة إلى النزول إلى ما يسميه مستوى العامة.
ولأن الصحيفة - مثل الأدب أيضا - تخاطب الشعب كله بمختلف اتجاهاته الثقافية والفنية والاقتصادية، فإنها يجب أن تستوعب جميع ألوان النشاط الذهني السياسي والاجتماعي والفني والعلمي، وهي حين تفعل ذلك تربي قراءها كما أنها تقرب بين طوائف الشعب.
ولكن الذي يجب أن نؤكده هنا أن الصحيفة لا يمكن أن تحايد، أي إنها يجب أن يكون لها مذهب أو مذاهب في الوطنية والسياسة، فإن في الدنيا خيرا كثيرا وشرا كثيرا، والصحفي الذي يقول إنه ينقل الخبر، وإنه لا شأن له بالعدل أو الاستبداد، وبالاستعمار أو الاستقلال، وبفساد الحكم أو صلاحه، إنما هو صحفي عاهر يفسق بذهنه، ولعله أيضا يساوم على ضميره.
فالصحفي، مثل الأديب، لا يمكن أن يكون متفرجا، يروي الأحداث، ويقتصر على الرواية، غير معني بما يصيب الأمة أو الإنسانية من خير أو شر.
لا. ليس هناك برج عاجي سواء في الأدب أو الصحافة، وليس هناك في المجتمع الحسن متفرجون في الصحافة.
والصحفي، كما يجب أن يكون، يحتاج لهذا السبب أن يدرس كثيرا ويختبر كثيرا، وهو إذا كان قد بدأ حياته الصحفية بالمرانة على كتابة الخبر، فإن اختباراته ستتكاثر طيلة حياته، لأن الخبر سيبقى بارزا في ذهنه يحركه إلى التفكير الذي يبني ويعمر، وإلى التعليق الذي يرشد ويهدي.
أليست هذه الدنيا حوادث؟ ثم أليست الحوادث أخبارا؟
صفحه نامشخص