واختارك الله إذ اختار لك فما تركت (يرحمك الله) إلا علانية مشهودة، وسريرة محمودة، وآثارا في الصالحات معدودة، وأفراخا في شجرة الحياة كصغار الطير إذا رأت أباها فارق عوده.
يرحمك الله، إن أول ما يشهد لك عند الله كعبته؛ إذ كانت آخر ما عرفت من الدنيا، وإن الذي يدخل السماء من باب الكعبة لحقيق أن تضع له الملائكة أجنحتها: سلاما وتحية؛ فهنيئا لك إذ فتحت باب السماء بتلك القبلة الزكية التي وضعتها على أستار الكعبة، وهنيئا لك إذ ذهبت لتقول: «لبيك اللهم لبيك»؛ فانطلقت روحك الطاهرة فيها، وكانت أول كلماتك في السماء! وهنيئا لك، ثم هنيئا إذ قطعت البحر والبر إلى خير بقاع الدنيا لتقول لله من هناك: ها أنا يا إلهي. •••
إن الحقيقة لا تسأل كيف يحيا الحي، ولكن كيف يموت، ولا تتعرف ما قدرته على الإقامة، ولكن ما قدرته على الرحيل، ولا تبالي ما قوته على الرسوخ كالجبل، ولكن ما قوته على الوثوب كالطائر! فهناك بين حدود الدنيا وحدود الآخرة موضع هاو لا يتخطاه إلا ذو جناحين، قد اشتد كل منهما ووفى.
6
وهناك متى انتهى الإنسان وجد عقله وضميره قد امتدا من جانبيه كالجناحين، ورأى كل عمل من أعمالهما - في السيئة والحسنة - إما ريشة قد نسلها من جناحه، وإما ريشة قد أنبتها فيه.
القدرة على جو السماء في جناح الطائر، وفي ريش هذا الجناح، وفي قوة هذا الريش، والقدرة على السماء نفسها في عمل الإنسان، وقيمة هذا العمل، وصحة هذه القيمة. •••
لسنا نبكي عليك أيها العزيز، وإنما على أنفسنا؛ فإن ما أمامنا لا يمكن أن يكون دنيا غير الدنيا، يفتح لها تاريخ غير التاريخ، والحقيقة التي ضمتها ملايين «المجلدات» المحفوظة في القبور،
7
هي هي بعينها لن تتغير ولن تتبدل؛ فإذا بكينا الميت فما بكينا ذهابه عنا، ولكنا نبكي لبقائنا بدونه، كما اجتمع نفر من الغرباء في البلد النائي فيخترم أحدهم،
8
صفحه نامشخص