أو كأن الأصل في هذا الإنسان هو العدوان على أخيه، وظلمه، واجتياحه، فكل حركة إنسانية مشكوك فيها حتى يقع أثرها؛ لأن الإنسان نفسه ستار منسدل على نيته، وهذه النية آلة للأطماع، فلا تزال في يد الكذب دائما، لا يدعها للصدق إلا فيما لا «ينفع» ...
وكان الطفل المسكين في جملة النظر إليه، خلقا من الحب المؤلم الذي يلهب الدم، يرسل من عينيه الدعجاوين سحر المذلة الفاتنة، تلك المذلة التي أعرفها أقوى ما في الحب إذا تذللت الحبيبة في نظرة ضارعة ترسلها لمحبها المفتون، فلا تبقي في رأسه رأيا، ولا في قلبه نية، وتذل له ليذل هو لا غير، كأن أحب العز في أحب الذل!
ونظر إلي أنا أول رمقة، فذكرت أطفالي فتزلزل قلبي، وأحسست أن دمي استحال إلى بارود وقع فيه الشرر!
وهؤلاء الأطفال الصغار هم إنسانية على حدة، فكل أب هو أبو هذه الإنسانية كلها، ولن يطيق من كان له طفل أن يرى صغيرا ضائعا في الطريق يستهدي الناس إلى أهله، ويبكي عليهم، أو طفلا جائعا يعرض على الناس وجهه المنكسر، ويستعطفهم بصوته المريض أن يطعموه، أو طفلا يتيما قد ثكل أهله، وضاق بقسوة أوليائه، فانطرح في ناحية يبكي، ويتفجع، ويسأل من يعرفون الموت: أين أبي؟ أين أمي؟
هؤلاء جميعا ليس بينهم وبين قلوب الآباء والأمهات حجاب؛ إذ ليس فيهم من الناس إلا اضطرارهم إلى الناس؛ فهم الإنسانية الرضيعة التي خلق من أجلها القلب الإنساني في شكل ثدي. •••
واطمأن ذلك الطفل إلى صدر أخته، ومال برأسه عليها، ثم أطلق عينيه فينا جميعا، فما حسبته أراد إلا أن يخبأ في قلبها أفكاره الصغيرة، ثم ينظر إلى هؤلاء الناس نظرات مجردة بلهاء كما ينظرون هم إليه؛ إذ لم ير فيهم من فتح له ذراعيه، ولا من حمله، ولا من تحنى عليه، ولا من ضحك له، ولا من أعطاه شيئا يأكله!
ألا إنما الناس صور الفكر، وصور القلب، فمن لم نر فيه صورة من أفكارنا التي نلتمسها، أو من أهوائنا التي نحبها، فذلك ليس منا، ولسنا منه، وإن سمي أخا في لغة النفاق، وإن دعي حبيبا في لغة المجاملة، بل هو مخلوق ليكون النموذج الذي نتعلم عليه البغض إن كان متصلا بنا، أو التسامح إن كان بعيدا عنا، ولم تتصل بنا، ولا أخباره ...
وكم بين الناس من اسم تعرفه على صاحبه كهذا النور الأحمر الذي يضعونه في الطرق؛ فيضيئونه من الليل فوق الحفر ... لينذر الناس ما وراءه، ويقول لهم بصوت النور: ههنا ما ينبغي أن تحذروه، ههنا حفرة ...
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فهم منقسمون حين يولدون أسباطا أسباطا باختلاف الدم في كل أسرة، وهم متفرقون حين ينشئون أفواجا أفواجا باختلاف الصحبة في كل فئة، وهم متباينون حين يتدفعون أحزابا أحزابا باختلاف الهوى في كل طائفة، وهم متناكرون حين يتنازعون أمما أمما باختلاف المنفعة في كل أمة، فتلك أربعة وجوه تلبسها الإنسانية فيهم، ومن ثم قضي على هذه الإنسانية المسكينة في الأرض أن تكون ثلاثة أرباعها عداوة، كالأرض نفسها: ثلاثة أرباعها ماء ملح لا يساغ ولا يشرب، وإنما منفعته للكون كله في الجملة! ولعل شيخا من الشيوخ لو تدبر حياته، وأحصى أقدارها، وميز أنواع حوادثها، وما أتي عليه فيها من أولها إلى آخرها، لرأى ثلاثة أرباعها ملحا أيضا ...
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فليس يأتي للوالدين أن يربوا من أولادهم ناسا، بل أهواء ومطامع يناقض بعضها بعضا: مطامع تتبع أسبابها، وأهواء ترجع إلى غرائزها؛ فلو أن أهل هذه الأرض بلغوا بما لا نعلم من الوسائل أن ينظموا ظاهر دنياهم حتى يكون سواء لا يخالف شيء منه على شيء؛ لبقي الانتقاض والاختلال في باطن الإنسان، حتى لكأن بعض الدم يخلق غالبا على بعض الدم. وإنه لا شيء في هذه الحياة إلا وقد خلق معه ضده، فإذا استقامت الأمور فلمن تكون الأضداد لعمري؟
صفحه نامشخص