8
وتالله إنه لأيسر على الباحث أن يجد الشراب الذي يغترف منه الظمآن بكفيه ماء زلالا، من أن يعثر على الكأس التي يقتبس منها السكير فضيلة أو فائدة.
ولو رجع الأمر إلي ما جعلت عقوبة الخمر إلا تحطيم الزجاجات على رءوس شاربيها؛ وهب أن رأس الأديب السكير هو رأس أرسطو علما وذكاء؛ فذلك أدعى لتحطيمه؛ لأنه لن يكون في عربدته، وسكره، وانحطاطه، وسقوط همته إلا رذيلة يدافع العلم والذكاء عن وجودها، فينصبها الشيطان مثلا للتقليد، ويتخذها الأغرار والضعفاء قاعدة للباطل المتبع، يعملون على احتذائها، ويتحولون عن فضيلتهم بحجتها؛ فيصبح هذا الرأس الواحد كالمطبعة: متى حبرها الطابع نقلت ما فيها «بحروفه» إلى كل الصحف البيضاء التي تلامسها! ••• ... وفي تلك الساعة كانت الأرض قد عريت إلا من أواخر الناس، وطوارق الليل، وبقية من يقظة النهار، تحبو في الطرق ذاهبة إلى مضاجعها: فبينا أمد عيني وأديرهما في مفتتح الطريق ومنقطعه، إذ انتفضت انتفاضة الذعر، ووثبت رجة القلب بجسمي كله كما تثب اللسعة بملسوعها؛ ذلك حين أبصرت الطفلين ...
صغيران ضلا من أهلهما في هذا الليل، يمشيان على حيد الطريق
9
في ذلة وانكسار، وتحسب أقدامهما من البطء والتخاذل لا تمشي، بل تزحزح قليلا قليلا فكأنهما واقفان، أكبرهما طفلة تعد عمرها على خمس أصابعها، والآخر طفل يبلغ ثلاث سنوات؛ ينحدران في أمواج الليل، وقد نزل بهما من الهم في البحث عن بيتهما ما ينزل مثله بمن تطوح به الأقدار، إذا ركب البحر المظلم ليكشف عن أرض جديدة.
تتبين الخوف في عيونهما الصغيرة، وتراه يفيض منهما على ما حولهما، حتى ليحسب كلاهما أن المنازل عن يمينه وشماله أطفال مذعورة!
ويتلفتان كما تتلفت الشاة الضالة من قطيعها: لا يتحرك في دمها بالغريزة إلا خوف الذئب!
ويتسحبان معا وراء الأشعة المنبثة في الطرق، كأن أضواء المصابيح هي طريق قلبيهما الصغيرين.
منقطعان في ظلام الليل، وليس على الأرض أهنأ من ليل الطفل النائم، فهل يكون فيها أشقى من ليل طفل ضائع؟! نامت أحلامهما، واستيقظت أعينهما للحقائق المظلمة الفظيعة، وضاعا من البيت، ويحسبان أن البيت هو الضائع منهما ... طفلان في وزن مثقالين من الإنسانية، ولكنهما يحملان وزن قناطير من الرعب.
صفحه نامشخص