وهذا النزاع الشديد يجعل القدرة على «حماية الذمار» مقدمة على كل قدرة؛ لأنها مسألة تتعلق بها الحياة والفناء.
وهو كذلك خليق أن يجعل المرأة في بعض الأحوال كلا ثقيلا على عواتق ذويها؛ لأنها تستنفد القوت ولا تشترك في حمايته والذود عنه.
وهذا الذي يفسر لنا كثيرا من النقائض العجيبة في الآداب العربية؛ لأنها - عند الرجوع بها إلى أسبابها - لا تحسب من النقائض، ولا تزال متشابهة متقاربة في الأصول.
فمن ذلك مثلا أن الحرب نشبت بين بني بكر وبني تغلب أربعين سنة لأن البسوس ابنة منقذ أضافت رجلا فضرب كليب ناقة ذلك الرجل وهو في ضيافة البسوس، فأقسم ابن أختها جساس لها «ليقتلن غدا جمل هو أعظم عقرا من ناقة جارك»، وقتل كليبا سيد بني تغلب في ثأر تلك الناقة، أو من أجل كرامة امرأة في ناقة جارها.
وإلى جانب ذلك يعلم القارئ أن قبائل من العرب كانت تدفن بناتها في طفولتها فرارا من عارها أو إشفاقا من نفقتها.
ويلوح أنهما نقيضان لا يلتقيان. والواقع أنهما غير نقيضين، وأن البيئة التي تدعو إلى إحدى الخصلتين حقيقة أن تدعو إلى الأخرى.
فإن آداب الحماية تجعل المرأة أحق شيء بأن يحمى، وأن يغار عليه الحماة؛ لأنها أمس بالرجل من أرض المرعى ومن ماء البئر ومن الجمل والناقة، فمن فرط فيها فما هو بقادر على حماية شيء من هذه الأشياء. ومن هنا فرط الغيرة على العرض وإيثار الموت للبنت على العار.
وإذا رجعنا إلى الأصل في «آداب الحماية» وهو النزاع الشديد الذي أوجبه شح الأرض بالري والطعام، فالحاجة إلى القوت خليقة أن تغري بالقسوة المهينة، وأن توسوس للمعوزين في سنوات الضيق بالتخلص ممن يستنفد القوت ولا يعين على تحصيله أو الذود عن موارده، ونعني بهن البنات الزائدات عن حاجة القبيلة في تلك السنوات.
وربما ظن بعضهم أن الوأد كله من مخافة العار كما قال البحتري وهو يعزي بني حميد ذلك العزاء العجيب عن فقد فتاة:
أتبكي من لا ينازل بالسي
صفحه نامشخص