ولو أني قر بي الجهد عند سيرة أبي بكر لكفاني ذلك ولاغتبطت به، وحسبك أن تتلو ما حدث في عهد الخليفة الأول لتسكن إليه وتستقر عنده، إن فيما رواه المؤرخون من وقائع هذا العهد لما ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب، بل الإكبار والإجلال، وأخشى أن أقول إنها تدعو إلى التقديس، أنت لا ترى هذه المعاني مصورة في أي من الكتب الأولى؛ لكن روايتها للحوادث تبرزها وإن لم تنطق بها، وتجلوها بينة واضحة وإن لم تذكرها ولم تحدث عنها.
فهذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر وإلى المشاركة، البائس في بؤسه، والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة.
أين كانت هذه العبقرية التي انطوت عليها نفس أبي بكر أثناء حياة الرسول؟
عدت بالذاكرة إلى سيرة أبي بكر قبل خلافته، واستحضرت مواقفه من رسول الله، فبدت لي في ثوب جديد من الجلال تحيط بها هالة من عظمة تواضعت إلى جانب عظمة الرسول وجلاله؛ لكنها برزت أمامي بكل بهائها وجلالها حين قرنت صاحبها إلى سائر أصحاب رسول الله ومن اتبعه من المسلمين، فأين مواقفهم، على جلالها وعظمتها، من مواقفه أول الرسالة، وحين كانت قريش تنال رسول الله بالإساءة والأذى، وحين كان حديث الإسراء، وأول الهجرة، وفي مكافحة دسائس اليهود بيثرب؟!! إن كل موقف من هذه المواقف لكفيل وحده بأن يؤرخ لرجل وأن يثبت اسمه في كتاب الخلود، وعظمة أبي بكر مع ذلك هي العظمة الصامتة التي تأبى أن تتحدث عن نفسها؛ لأنها عظمة الروح وعظمة الإيمان الحق بالله وبما أوحى إلى رسوله
صلى الله عليه وسلم .
ثم ماذا؟ ثم إن رواية الحوادث في عهد أبي بكر تشهد له بحسن الرأي وبعد النظر، فهو حين فكر في غزو الفرس وفي غزو الروم لأول ما اطمأن إلى موقف المسلمين من حروب الردة في بلاد العرب، قد رأى في مبدأ المساواة الذي جاء الإسلام به قوة جديدة لا تستطيع فارس ولا تستطيع بزنطية أن تواجهها، فهذا المبدأ جدير بأن تهوي إليه نفوس الناس جميعا في هاتين الإمبراطوريتين اللتين قامتا على حكم الفرد وعلى نظام الطوائف وعلى التفاوت بين الناس، ليكن لكل من الإمبراطوريتين ما تشاء من عدد وعدة؛ فإن فكرة المساواة والعدل أقوى من كل قوة، والحكم القائم على أساس هذه الفكرة جدير بأن يكسب الناس إليه ما كان الإنصاف أساسه، لذلك لم يصد أبا بكر عن غزو العراق وغزو الشام ما كان من اختلاف طائفة من كبار الصحابة معه في الرأي، بل أمر بهذا الغزو مطمئنا إلى أن الله معينه وناصره، ولذلك نصح إلى من بعثهم على رأس هذا الغزو أن يتمسكوا بالمساواة وبالإنصاف والعدل لا يحيدون عنها قيد أنملة.
تتجلى هذه المعاني واضحة كل الوضوح من خلال الحوادث التي رواها المؤرخون الأولون عن هذا العهد القصير العظيم الذي تولى الصديق فيه أمر المسلمين؛ ويزيد ما كتبه المستشرقون بعض هذه المعاني وضوحا بما أوردته كتبهم من ملاحظات، وما حاولت أن تفسر به بعض الحوادث.
وهذه المعاني هي التي تجعل هذا العهد القصير خليقا أن يفرد له سفر مستقل يصور ذاتيته الخاصة وتكوينه التام.
وأنا أقصد ما أقول حين أذكر أن عهد الصديق له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، فهو على اتصاله بعهد الرسول قبله وبعهد عمر بعده، يمتاز بطابع يشخصه، فعهد الرسول كان عهد وحي من عند الله، أكمل الله به للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، وعهد عمر كان عهد تنظيم للحكم الذي استقرت قواعده، وللإمبراطورية التي تفتحت أبوابها، أما عهد أبي بكر فكان فترة الانتقال العصيبة الدقيقة التي تربط بين هذين العهدين، وتتميز مع ذلك عن كل منهما، بل تتميز عن كل عهد عرفه الناس في تاريخ الحكم واستقراره، وفي تاريخ الأديان وانتشارها.
في هذه الفترة الدقيقة صادفت أبا بكر صعاب بلغت من الشدة أن أثارت مخاوف المسلمين جميعا في أول عهده، فلما تغلب بفضل إيمانه عليها، وأمده الله بالتوفيق والنصر فيما تلاها، تولى عمر بن الخطاب سياسة المسلمين، فدبر أمورهم، وأقام بينهم عدلا وطد قواعد ملكهم، وجعل دول العالم تدين طائعة لسلطانهم.
صفحه نامشخص