1
وبادية الشام، وقد كانت دومة الجندل بالجوف أعلى المدائن التي تتاخم هذا الخط، وذلك فيما خلا العصور التي كانت الشام والعراق منضمتين فيها إلى الدولة العربية.
وأهل الشام الأصليون من الفينيقيين، وأهل العراق الأولون من الآشوريين، ولقد كانت الصحراء التي تترامى بينهما، وهي بادية الشام تحول في العصور الأولى دون التقائهما وامتزاجهما، فاجتياز الصحاري ليس أمرا محببا إلى أهل الحضر، وفيم يجتازونها ويتعرضون لأخطارها وليس فيها من أسباب الحياة ما يجذب النفس إليها! وإن كثيرين ليفرون حتى اليوم من اجتياز هذه البادية بالسيارة، ويؤثرون النقلة بين الشام والعراق على متن الهواء.
على أن هذه الصحراء التي لم يهو إليها الفينيقيون من أهل الشام ولا الآشوريون من أهل العراق في العصور القديمة، قد استهوت العرب أهل البادية ممن يرون الصحراء الطليقة سحرا ووحيا وحرية وجمالا، ويرون الحضر قيدا بل سجنا وإن لبست فيه الشفوف، والمؤرخون يذكرون هجرة العرب إلى الشمال لانهيار سد مأرب، ونزوح قبائل الأزد التي جرفها السيل إلى الحجاز وإلى الشام؛ أو لاتخاذ الروم البحر طريقا للتجارة بدلا من البادية، وهم يذكرون أن هذه الهجرة حدثت في القرن الثاني المسيحي، ومع التسليم بهذه الرواية، فلا ريب في أن قبائل من العرب استقرت ببادية الشام قرونا طويلة من قبل، متخلفة عن القوافل التي كانت تنزل العراق أو الشام للغزو أو للتجارة.
وقد أقام العرب الذين نزحوا إلى الشام وإلى العراق على حدود الحضر في كل من الدولتين، ولم يكن مقامهم على هذه الحدود مما اضطرتهم إليه سياسة الدولة التي نزلوا بها، وإنما جذبتهم البادية إليها فلم يستطيعوا مقاومة سحرها، واستهواهم الحضر ليكونوا على مقربة منه كي ينالوا رزقهم دون مشقة أو عناء، وذلك شأن أهل البادية في كل عصر، وأنت إذا التمست منازلهم اليوم بمصر أو بالشام أو بالعراق أو بأي بلد يتصل فيه الزرع برمال الصحراء، رأيتها على شفا الصحراء بين الحضر والبادية، ورأيت أهلها يولون شطر البادية وجوههم ويمنعون فيها بقوافلهم حينا بعد حين وكأن الوراثة البدوية المتغلغلة في نفوسهم والجارية مع الدماء في عروقهم، تأبى عليهم أن يستقروا وأن يسكنوا إلى ما يسكن أهل الحضر إليه من نظم الجماعة، وطبيعتهم هذه تفرض عليهم ألوانا من الشظف ما كان أغناهم عنها لولا ما يجدونه في فسحة البادية من حرية مطلقة، ومن اتصال بالوجود غير المحدود، ينهض عندهم عوضا عن كل شظف، ويهون عليهم كل مشقة.
ولم تلبث بادية الشام حين انتشرت فيها قبائل العرب الذين هاجروا إليها أن صارت كأنها قطعة من شبه الجزيرة، وكان الغسانيون أقوى هذه القبائل عنصرا، وأكثرهم على الحياة صبرا وجلدا، لذلك أقاموا مملكة بني غسان على حدود الشام، كما أقام اللخميون ملك الحيرة على شواطئ الفرات، ولقد كان دأب هؤلاء العرب يومئذ كدأب بني وطنهم دائما، يشاركون الأمة التي يقيمون على حدودها في مصيرها ويشاطرونها آمالها، من ثم سلموا في الشام بحكم الروم، وفي العراق بحكم الفرس، وإنما كان ذلك منهم تسليما بالأمر الواقع أكثر مما كان إذعانا لغلب المنتصر؛ لذلك كانت الأوضاع السياسية تتغير في أمرهم تبعا لقوتهم وضعفهم، وكان لهم أكثر الأمر استقلال ذاتي حرصوا عليه ودافعوا عنه.
ومن العجب في أمر البدوي أنه، على تعلقه بالبادية وحبه إياها وانجذابه إليها كلما بعد عنها، شديد الإعجاب بالحضر وما يحيط به من زروع نضرة، وما يبدو على أهله من نعمة ورفاه عيش، ولقد كان حديث الشام وجناتها وأعنابها وحورها العين مما لا يفتأ أهل مكة والمدينة وسائر بلاد الحجاز يتذاكرونه بعد رحلة الصيف، يقص نبأه من اشترك في الرحلة، ويرويه الرواة عنهم بعد ذلك، فإذا شفاه السامعين تنفرج، وحدق عيونهم يتسع، وريقهم يتحلب، شوقا لهذه الخضرة النضرة، والمياه الجارية، والأيدي الناعمة، والخدود الملساء، أن يكون لهم مثلها في بلادهم، وكأنما غاب عنهم أن بارئ النسم قسم الرزق بين الناس بالعدل، فجعل لأهل البادية الحرية الشاملة وإباء الضيم، يقابلهما شظف لا يصد عنهما ولا يقلل من الرغبة فيها والحرص عليهما؛ وجعل لأهل الحضر الرفاهية والنعمة والنظام والأمن، يقابل ذلك قيود للحرية في كل مظاهرها، ثم لا ينزع الناس إلى تحطم هذه القيود حرصا على النعمة وعلى الأمن.
كان ذلك شأن القبائل التي هاجرت إلى العراق وإلى الشام على تفاوت بينها في التعلق بالبادية، ومع أن أكثرها نعم بالحضر وترفه، لقد ظل حرصها جميعا على حياتها العربية شديدا، كما ظلت العلاقات بينها وبين شبه الجزيرة متصلة على القرون، وليس من غرضي أن أفصل ذلك في هذا الكتاب، فنطاق البحث لا يتسع له ولا يقتضيه، وإنما أثبت منه هنا ما يجلو لنا في بعض السر في تمهيد هاتين الإمارتين العربيتين، إمارة اللخميين وإمارة الغسانيين، للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية في عهد أبي بكر.
أشرنا إلى أن هجرة العرب من الجنوب إلى الشمال ترجع إلى ما قبل انهيار سد مأرب، وقبل تحويل الروم طريق التجارة من البر إلى البحر، والواقع أن هذه الهجرة أقدم بكثير من هذين الحادثين، على ما كان لهما من جليل الخطر في حياة بلاد العرب، فالنسابون يذكرون أن التنقل بين القبائل كان كثير الوقوع من قبل الإسلام، وهو لا شك كان كثير الوقوع منذ أقدم العصور، فقد كان العرب يتعاملون مع البلاد التي تجاورهم؛ إذ كانوا ينقلون تجارة الشرق الأقصى إلى بلاد الشام ومصر والروم، وكانوا ينقلون تجارة الشام ومصر والروم إلى الشرق الأقصى، وكانت هذه التجارة تسير مخترقة شبه جزيرة العرب في أحد طريقين: طريق حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي ثم إلى الشام، وطريق حضرموت إلى اليمن فالحجاز إلى الشام، وكانت مكة تتوسط هذا الطريق الثاني، وكان أهل الجنوب من الحضارمة واليمنيين وأهل عمان والبحرين هم السابقين الأولين للقيام بهذه التجارة، ذلك بأنهم كانوا أكثر من أهل الشمال حضارة؛ لخصب أرضهم، ولاتصالهم بالفرس اتصال جوار مباشر، لذلك كانت أكثر القبائل التي هاجرت إلى العراق وإلى الشام واستقرت بهما من قبائل الجنوب، فالغساسنة الذين أسسوا مملكتهم شرقي الشام كانوا من الأزد إحدى قبائل عمان التي تنسب إلى شعب كهلان اليمني، كذلك تنسب قبائل قضاعة وتنوخ وكلب التي استقرت على حدود الشام إلى شعب حمير اليمني، وطبيعي أن تستقر قبائل الجنوب بالعراق؛ فإن العراق يجاور حضرموت وما اتصل بها من قبائل بني حنيفة وتغلب ومن إليهم.
هاجرت بطون من هذه القبائل منذ العصور الأولى إلى بادية الشام، واستقرت بها مستقلة عن سلطان أولي السلطان في حضر العراق وفي حضر الشام، فلما انهار سد مأرب ثم انقسمت التجارة بين طريق البادية وطريق البحر، هاجرت بطون أخرى وقبائل أخرى إلى الحجاز، ثم هاجرت بعض هذه البطون منه إلى الشام، التماسا لرزق وحضارة أكثر وأرفه من حضارة البادية.
صفحه نامشخص