الفصل السابع
طليحة وغزوة البزاخة
باءت عبس وذبيان وبنو بكر ومن آزرهم في مهاجمة المدينة بعار الهزيمة، فانحازت إلى طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إلى هؤلاء قبائل طيء وغطفان وسليم وما جاورها من أهل البادية الواقعة شرق المدينة وإلى شمالها الشرقي، وكانوا جميعا يقولون ما يقوله عيينة بن حصن ومن معه من بني فزارة: «نبي من الحليفين - يعنون أسدا وغطفان - أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي.»
ولم يكن هؤلاء في ريب من أن أبا بكر سيتجهز لهم ويحاربهم، لكنهم أصروا على مناهضته، وعلى متابعة طليحة، تمردا على سلطان المدينة، وحرصا على استقلالهم، واستكبارا أن يؤتوا الزكاة؛ إذ هم يرونها إتاوة يؤديها التابع للمتبوع، وكان طليحة يقيم بسميراء، ثم انتقل منها إلى بزاخة يحسبها أمنع موقعا وخيرا في الحرب مكانا.
وطليحة لم يتنبأ بعد موت رسول الله، بل تنبأ في العهد الأخير من حياته، شأنه في ذلك شأن الأسود العنسي ومسيلمة، وهو لم يدع العرب إلى العودة لعبادة الأصنام، كما لم يدعهم غيره من المتنبئين إلى العودة لعبادتها، لقد قضى محمد على هذه الوثنية في بلاد العرب قضاء مبرما، فامتدت دعوة التوحيد إلى أنحاء شبه الجزيرة جميعا، واستقرت في النفوس استقرارا جعل التفكير في الأصنام ضربا من الهذيان يستحيي منه كل إنسان، وإنما زعم أولئك المتنبئون أنهم يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد، وأن الملك يأتيهم من السماء كما يأتي محمدا، وقد حاول بعضهم محاكاة القرآن فيما أوهم أنه يوحى إليه، وحفظت الروايات لنا صورا لما زعموا من ذلك يصعب القطع بصحة نسبتها، فهو من السخف بحيث يتعذر على أي إنسان أن يتصور كيف يرضى متنبئ إذاعتها باسمه في الناس، وكيف يقبل الناس عليه أو يتبعونه حين يرونه ينسب هذا الهذر إلى الوحي ويدعي أنه من كلام رب العالمين، وحسبك أن تتلو ما قيل إن طليحة زعم أنه أوحي إليه لترتاب في أن يدعيه رجل تجتمع العرب حوله، ثم يكون له من بعد في الإسلام مواقف لا يزال يحفظها التاريخ عن وقائع الفتح في إبان عهد عمر بن الخطاب، ومما تذكر الروايات عما زعم طليحة أنه أوحي إليه قوله: «والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام.»
لقد طالما قرأنا عن سجع الكهان في الجاهلية، وكلنا نذكر أن قريشا حاربت محمدا بأنه كاهن، وبأن ما يوحى إليه هو بعض هذا السجع، ولقد استبان لمن عاصروا النبي أن هذه الدعاية هراء حين توجه إلى القرآن، ثم استبان للعرب وللناس جميعا أن القرآن معجزة محمد، لن يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ولقد كان طليحة كاهنا، كما كان الأسود العنسي كاهنا، أفهذا السجع الذي ادعوه وحيا كان من سجع الكهان؟! لئن صح ذلك لقد كان الكهان طرازا من المشعبذين أعجب طراز، ولقد كان ما ينسب إليهم من الحكمة مما يزري بالحكمة.
وسواء أصحت نسبة هذه الأقوال إلى طليحة أم لم تصح فإنه قام يدعو إلى آراء لم يحفظ لنا التاريخ منها شيئا يذكر، وكل ما يحدثنا به أنه أنكر الركوع والسجود في الصلاة، وقال: إن الله لم يأمر أن تمرغوا وجوهكم في التراب، أو أن تقوسوا ظهوركم في الصلاة، فإن يكن ما نسب إليه من ذلك صحيحا فلعله نقله عن الصلاة عند المسيحيين، وإنما ترجع قلة ما بقي لنا من آثار طليحة ومسيلمة وأضرابهما إلى مثل السبب الذي ترجع إليه قلة ما لدينا عن الأصنام؛ فقد عفى المسلمون الأولون على ذلك كله، ولم يفكر أحد منهم في تدوينه أو روايته، ولم يدون من بعد إلا ما عد تدوينه تأييدا للدين القيم، وأنت تعرف أن المسلمين لم يدونوا في الصدر الأول شيئا إلا ما كان من جمع أبي بكر كتاب الله، فأما جمع السنة والحديث فقد حدث بعد القرن الأول، وقد اقتضى العاملين عليه من المشقة ما لم يهونه إلا عظيم الرجاء في مثوبة الله عنه، فلا عجب وذلك هو الشأن أن تخامرنا الريبة في كثير من الروايات عن طليحة وغيره من المتنبئين، وبخاصة إذا لم تتفق هذه الروايات والمعروف من حياة العرب في حضرهم وبدوهم، ولم تتسق مع ما يتصل بها من الأحداث والشئون.
تنبأ طليحة في بني أسد، كما تنبأ الأسود في اليمن ومسيلمة في اليمامة، في حياة النبي، هنالك وجه محمد ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد يأمرهم بالقيام على كل من ارتد، ونزل المسلمون واردات، ونزل طليحة ومن معه سميراء، وكان عدد المسلمين يزداد، وعدد المرتدين ينقص، لتواتر الأنباء عن نصر المسلمين في شتى الميادين، حتى هم ضرار بالسير إلى طليحة لمقاتلته، ولقد سبقه أحد المسلمين يريد أن يريح من هذا المتنبئ فضربه بالسلاح فنبا عنه ولم يصبه، وأسرع المحيطون بطليحة فأذاعوا هذا الأمر في الناس وجعلوا يقولون: إن السلاح لا يجوز في نبيهم ، وإن المسلمين ليتجهزن لمواجهة هذا الموقف إذ جاءهم النبأ بوفاة رسول الله، فاضطربوا وتناقص عددهم، وهرع الكثيرون منهم إلى طليحة يتابعونه ويؤيدونه، فلما انحازت إليه عبس وذبيان بعد أن هزمهم أبو بكر بذي القصة استغلظ أمره وظن أن لن يغلب.
اجتمع إلى عبس وذبيان من القبائل ما زاد طليحة قوة، ذلك أن أسدا وغطفان وطيئا كان بينهما حلف في الجاهلية من قبل أن يبعث رسول الله، ثم إن أسدا وغطفان اجتمعتا على طيء فأجلوها عن ديارها، وانقطع بذلك ما بينها وبينهما، فلما مات رسول الله قام عيينة بن حصن الفزاري في غطفان فقال: «ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش، وقد مات محمد وبقي طليحة.» وتابع عيينة قومه على رأيه، فاشتدت بهم شوكة المرتدين حتى فر من كان بينهم من المسلمين إلى المدينة.
اجتمعت هذه القبائل في بزاخة معلنة ردتها وخروجها على سلطان المدينة، وتهيأ أبو بكر فعقد الألوية لقتالهم، وبعث إليهم، كما بعث إلى غيرهم من أهل شبه الجزيرة، بكتابه يهددهم فيه بالقتال والقتل إن لم يعودوا إلى حظيرة الإسلام، وكان خالد بن الوليد هو الموكل بطليحة وبمالك بن نويرة من بعد، فهل أسرع بالسير إليه ليناجزه ويناجز معه كل هذه القبائل؟ كلا! بل أذاع أبو بكر أنه خارج بنفسه على رأس جيش إلى خيبر حتى يلاقي خالدا فيعينه على جموع المرتدين ثم إنه طلب إلى عدي بن حاتم، وكان قد جاء بالزكاة إلى المدينة كما أسلفنا، أن يذهب إلى قومه طيء يخوفهم عاقبة أمرهم إذا أصروا على ردتهم، ولم يقصد خالد إلى البزاخة من فوره، بل جنح إلى أجأ وأظهر أنه خارج إلى خيبر لينضم إلى جيش الخليفة ثم ينصب الجيشان على البزاخة، وبلغ عدي قومه وقد ذاعت هذه الأنباء في الناس.
صفحه نامشخص