كلا! بل أخذتها العزة بالإثم، غرها بالله الغرور، وصدق عليها المثل: العناد يورث الكفر، لذلك جلت عن مواطنها وانحازت إلى طليحة بن خويلد المتنبئ في بني أسد وكفرت بنعمة الله عليها بالإسلام، ولم يستطع المؤمنون الذين أقاموا على دين الله بينها أن يقاوموا عنادها وكفرها، فنزح منهم من نزح معها كارها برما لا يملك من أمر نفسه شيئا، وقوى انحيازها بأس طليحة ومسيلمة وقوى روح التمرد في اليمن ، لذلك بقي أبو بكر في موقفه الأول من العزم على مقاتلتهم حتى يتم أمر ربك، ولو أن هذه القبائل أذعنت لحكم العقل وأصاخت لإملاء المنطق لضعضع أمرها من عزم طليحة وأشباهه، ولأسرعت شبه الجزيرة إلى حمى الإسلام والسلام.
ولست تجد تعليلا لهذا العناد ولهذا الانقلاب عن الإسلام إلا ما قدمنا من تعصب القبائل وحرصها البدوي على سلطانها، ومن المغالاة في ذلك إلى حد لا يكبح من جماحه غير البأس، فإذا كانت قد ردت على أعقابها حين حاولت مهاجمة المدينة، أو كانت قد أجليت عن بعض منازلها من بعد، فطبيعتها البدوية تدعوها إلى الثأر لنفسها، ولتثأر لنفسها انضمت إلى بني أسد وإلى طليحة، لعلها تجد في عونهما ما يرفع عنها عار الذلة، وما يرد إليها شيئا من الكرامة.
فأما أبو بكر فكان قد سما فوق الاعتبارات القبلية وما يتصل بها، وتوجه بكل قلبه ورأيه وعزيمته إلى تنفيذ الخطة التي رسمها رسول الله، تلك سياسته التي أعلنها يوم بويع، والتي سار عليها إلى أن لقي ربه.
الفصل السادس
التهيؤ لحروب الردة
هزم أبو بكر عبسا وذبيان وبني بكر ومن انضم إليهم وأجلاهم عن مواقعهم بالأبرق، فانحازوا إلى طليحة بن خويلد الأسدي ببزاخة، وقد أعلن أبو بكر أن الله غنمه هذه البلاد فلن يردها إلى أصحابها، وأنه جعل الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس وجعلها صدقات للذين آمنوا، ورجع الصديق إلى المدينة وهو يفكر في الوسيلة التي يقضي بها على الذين ارتدوا عن الإسلام القضاء المبرم، فما كان ليذرهم في شتى الأنحاء من شبه الجزيرة يثورون به وبدين الله، وما كان ليصالحهم أو يوادعهم قبل أن يثوبوا إلى الله وأن يرجعوا مسلمين.
وأقام بالمدينة، حتى إذا اطمأن إلى أن جيش أسامة جم خرج به إلى ذي القصة فوزع الجند أحد عشر لواء، جعل على كل لواء منها أميرا، ثم أصدر إلى كل منهم أمره أن يستنفر من يمر به من المسلمين أولي القوة وأن يسير لقتال المرتدين.
1
احتفظ أبو بكر للمدينة بقوة تحميها كانت دون كل الألوية عددا، ذلك أن المدينة كانت يومذاك بمأمن من غارة المغير، وكانت في رخاء زاد أهلها اطمئنانا للحياة، وكيف لقبيلة أن تغير عليها والغارات توجه منه إلى كل صوب، وقد تداول سمع الناس من أنباء جندها المظفر وما له من الأيد والبسالة ما جعل دفع هذ الجند غاية ما يطمع فيه الثائرون بها!
ومن يومئذ أقام أبو بكر بالمدينة لم يبرحها، ولم يكن ذلك رغبة منه عن مشاركة المسلمين في مواقعهم، بل لأن المدينة أصبحت مكان القيادة العامة للجند كله، والمرجع الذي تصدر منه الأوامر بالتحرك من مكان إلى آخر، فقد كان مما أمر به أبو بكر قواده ألا ينتقل أحدهم من حرب جماعة تغلب عليها إلى مواجهة أخرى لمقاتلتها حتى يستأذنه؛ وذلك إيمانا منه بأن وحدة القيادة في الحرب بعض ما تقضي به السياسة الحكيمة، وما يكفل الغلب والفوز.
صفحه نامشخص