إلى اليمامة يقرئ أهلها القرآن ويفقههم في الدين، فلم يلبث حين رأى السواد من أهل اليمامة يتبع مسيلمة أن أقر بنبوته، وشهد بأن محمدا يقول: إن مسيلمة قد أشرك في الرسالة معه، وكان نهار فقيها يتلو على الملأ القرآن الذي أوحي إلى محمد ويقص عليهم تعاليمه ويفقههم في دينه، هذا وما حدث من مثله إثر وفاة الرسول إذ نجم النفاق واشرأبت الأعناق يشهد بما لحجة عمر في جمع القرآن بعد اليمامة من قوة تذهب بكل تردد.
وماذا بعد في جمع القرآن مما لم يصنعه رسول الله حتى يتردد أبو بكر أو يتردد زيد بن ثابت بسببه؟! لقد أمر (عليه السلام) أن يكتب الوحي وأن تكتب الآيات مرتبة في السور، وما منعه أن يأمر بجمع القرآن قبل أن يختاره الله إليه إلا أن الوحي كان يتتابع، وأن بعض الآيات كانت تنسخ، أما وقد قبض فانتهى نزول الوحي وتم كتاب الله وكمل دينه، فالخير في أن يجمع القرآن حتى لا يتعرض لما خشي علي بن أبي طالب أن يتعرض له من زيادة فيه أو نقص منه، وبخاصة بعد أن قتل من القراء باليمامة من قتل؛ ويخشى أن يقتل منهم آخرون في مواطن غير اليمامة.
أحسب هذه وأمثالها من الحجج هي ما ساقه عمر حين ناقش أبا بكر في جمع القرآن، وهي كما ترى حجج تحسم كل ريبة وتقطع بما في الجمع من خير للإسلام والمسلمين، لهذا اقتنع أبو بكر برأي عمر، ثم اقتنع به زيد بن ثابت.
11
ويجمل بي قبل أن أفصل ما حدث بعد اجتماع الصديق والفاروق وكاتب الوحي لرسول الله، أن أذكر أن ما حدث في عهد عثمان قد أيد ما رآه عمر من جمع القرآن، ودل على صدق نظره فيه، فقد اتسعت رقعة الفتح في عهد عمر وعثمان، وكان أصحاب رسول الله يقرءون القرآن ويعلمونه من أسلم من أهل البلاد المفتوحة؛ فاختلف الناس في القراءة وعظم اختلافهم وتشتتهم؛ حتى إن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، وأفضل من قراءتك. وبلغ الأمر من ذلك حتى كاد يكون فتنة؛ اختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعنوا، ورأى حذيفة بن اليمان خلافهم إذ كان يقاتل مع المسلمين على إرمينية وأذربيجان، ففزع وكر راجعا إلى المدينة ودخل على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك. قال عثمان: فيماذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وقد جمعت ناسا من العراق والشام والحجاز، ثم وصف له ما تقدم من اختلافهم في القراءة، وأردف: وإني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.
12
ورأى عثمان الخطر، فجمع الناس فعرض عليهم الأمر، فسألوه رأيه فقال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة؛ فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. وأقره أهل الرأي، فأرسل إلى حفصة يسألها أن ترسل إليه مصحف أبي بكر لنسخه في المصاحف، وكان ذلك أول ما حدث في جمع مصاحف عثمان وتوحيد قراءة القرآن.
هذا الخلاف في عهد عثمان بالغ الدلالة على أن عمر كان صادق النظر حين أشار على أبي بكر بجمع القرآن، وقد اتخذ عثمان مصحف أبي بكر إماما لهم في توحيد القراءة، فلو أن أبا بكر لم يجمع القرآن لتفاقم الخلاف، ولأصاب المسلمين من ذلك شر أنجاهم عمل الصديق منه، من ثم لم يغل علي بن أبي طالب حين قال: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع بين اللوحين.»
شرح الله صدر أبي بكر لجمع القرآن بعد حواره مع عمر، فعهد إلى زيد بن ثابت أن يتتبعه فيجمعه، روي أن عبد الله بن مسعود غضب لذلك وقال: يا معشر المسلمين! أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل؟ والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت. وقد نسب هذا القول إلى ابن مسعود حين أمر عثمان زيدا بجمع القرآن وأردفه بمن أردفه بهم من الصحابة، ولعل عبد الله غضب في المرتين لما ذكره القرطبي حين قال: «قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله.» وهذه العبارة ترجح غضب ابن مسعود في المرتين.
وقد بلغ غضب ابن مسعود لهذا الأمر أمدا بعيدا، حتى كان يقول: «لقد قرأت من في رسول الله
صفحه نامشخص