أتزوج سيبويه وكون بيتا، أم وهب نفسه للعلم وكرس حياته له؟ لا يروي التاريخ شيئا يتعلق بذلك، وأغلب الظن أن سيبويه عاش حياته كلها للعلم والتعليم، ونستأنس لذلك بأن الروايات التي تتحدث عن وفاته، وتصف لحظاته الأخيرة، لا تتحدث عن زوجة ولا ولد، وكل ما يذكره التاريخ له من الأقارب أخ، يظهر أن الحب والمودة كانت تربطهما معا بأوثق رباط، ولعل سيبويه لم يكن له أخ سواه، قالوا: ولما اعتل سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه، فبكى أخوه لما رآه لما به، فقطرت من عينه قطرة على وجه سيبويه، ففتح عينه فرآه يبكي، فقال:
أخيين كنا، فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا
لم يترك سيبويه ذرية من بعده، ولكن ترك ذكرا مخلدا، واسما سوف يبقى ما بقيت اللغة العربية، وما بقي دارس لهذه اللغة، ولقد نال سيبويه في حياته من الشهرة وذيوع الصيت ما لم ينله قبله إلا أستاذه العظيم الخليل بن أحمد، بل لقد صار اسمه يذكر بجانب أستاذه كلما تحدث الناس عن أعظم علماء النحو، ولم تقف شهرته عند العلماء، بل لقد كان مشهورا كذلك بين جمهور الشعب، يتأثرونه ويقلدونه، حدث التاريخي عن المبرد عن الزواوي أبي زيد قال: قال رجل لسماك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ قال: بدرهمان. فضحك الرجل، فقال السماك: ويلك، أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان. (12) تلامذته
ترك سيبويه من بعده تلاميذه، وكان من أشهرهم أبو الحسن الأخفش الأوسط، والناشئ، وأبو علي قطرب، وترك كتابه العظيم الذي سنتحدث عنه فيما بعد. (13) من أرخ لسيبويه
لم يدرس سيبويه إلى اليوم الدراسة التفصيلية التي يستحقها إمام ألف أول كتاب وصل إلينا في قواعد اللغة، وأقدم ترجمة اهتديت إليها لسيبويه في كتاب أخبار النحويين البصريين للسيرافي المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وستين للهجرة، وهي ترجمة موجزة، تحدث فيها عن اسمه وبعض أساتذته وزملائه وتلامذته وكتابه، ولم يحدد بالزمن سني حياته ووفاته، ولا مكان موته، وفي كتاب «الفهرست» لابن النديم المتوفى سنة 385 خمس وثمانين وثلاثمائة هجرية ترجمة موجزة كذلك، وتحدث فيها عما تقدم، وأضاف إليه خبر رحلته إلى بغداد، وحدد سنة وفاته .
كنا نطمع من هذين العالمين أن يشفيا غليلنا من سيبويه لقرب عهدهما به، ولكن منهجهما في التأليف وخطتهما التي اتبعاها في الإيجاز حرمتنا من معارف كثيرة كانا يستطيعان أن يقدماها إلينا.
وفي «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة هجرية ترجمة لسيبويه، نهج فيها المؤلف منهجه في ذكر الروايات المختلفة بأسانيدها، وفي هذه الترجمة بعض الطول، وهي تحوي روايات متعارضة من مصادر مختلفة.
وفي القرن السادس للهجرة كتب صاحب «نزهة الألباء» المتوفى سنة 577ه، وهو كوفي يتعصب للكوفيين، فصلا يشبه إلى حد كبير فصل الخطيب البغدادي، ولم يبين وجه الصواب في الخلاف بين سيبويه والكسائي، ولكنه لم يستطع أن ينكر مواهب سيبويه ولا فضل كتابه، أما صاحب «معجم الأدباء» المتوفى سنة 626ه، فقد عقد لسيبويه فصلا مطولا، هو أطول ما كتب عن سيبويه إلى ذلك الحين، وفيه عيوب التأليف في تلك العصور، فلا ترتيب ولا تبويب، ولكنها روايات تجمع، ينتقل فيها من موضوع إلى غيره بلا صلة ولا رباط، وإن كانت له تحقيقات نافعة في كثير من الأحيان، كتحقيق سن سيبويه عند وفاته، كما تناول الحديث عن سيبويه في مواضع شتى، وفي هذا الكتاب نقل لرواية لم يمحصها وتركها كما رواها، قال: نقلت من خط أبي سعد السمعاني، مما انتخبه من طبقات أهل فارس وشيراز، تأليف الجاحظ أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز الشيرازي القصار، بشير بن سعيد، وقيل: عمرو بن عثمان بن قنبر، يكنى أبا بشر سيبويه النحوي، «أخذ» عن الخليل بن أحمد، وهو من الحارث بن كعب، مات وكان على مظالم فارس، وقبره في شيراز، لم يزد في ترجمته على هذا. وأقول أنا بدوري: إن ياقوت لم يزد عن أن نقل هذه الترجمة ولم يمحصها، فهل ولي سيبويه مظالم فارس؟ أستبعد ذلك؛ إذ لم يرو غيره من المؤرخين نبأ كهذا، والمترجم يخطئ حتى في اسم سيبويه، مما يجعل هذه الترجمة تافهة قليلة القيمة.
عن هذه الكتب الخمسة أخذ ابن خلكان الذي توفي سنة 681ه، وقد عقد له فصلا موجزا ليس فيه من جديد سوى ضبط اسم سيبويه في العربية والفارسية. وأخذ السيوطي أيضا المتوفى سنة 911ه في كتاب «بغية الوعاة»، وأخذ المحدثون من أمثال جورجي زيدان، والرافعي، والإسكندري.
صفحه نامشخص