وقد رجعت إلى كتاب سيبويه فلم أجد هذه القصة، ولكنه أورد البيت شاهدا على إعمال فعل، وقد علق الأعلم الشنتمري بعد أن ذكر قول من زعم صناعة هذا البيت بقوله: وإن كان هذا صحيحا فلا يضر ذلك سيبويه؛ لأن القياس يعضده، وقد ألفيت في بعض ما رأيت لزيد الخيل بن مهلهل الطائي بيتا في تعدي فعل، وهو قوله:
أتاني أنهم مزقون عرضي
جحاش الكرملين لها فديد
فقال: مزقون عرضي كما نرى، وأجراه مجرى ممزقين، وهذا لا يحتمل غير هذا التأويل، فقد ثبت صحة القياس بهذا الشاهد القاطع.
وأقول بدوري: إن ذلك لن يكون مطعنا في شواهد سيبويه التي يبلغ عددها ألفا وخمسين بيتا، حدث التاريخي عن المبرد عن المازني عن الجرمي قال: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتا، سألت عنها فعرف ألف ولم تعرف خمسون أي من قائليها، وذكر الأستاذ الرافعي في هامش كتابه أن المرحوم الشقنقيطي ذكر في حماسته المطبوعة أنه علم واحدا من هذه الخمسين، وهو قول القائل: «أفبعد كندة تمدحن قبيلا»، فقال إنه لامرئ القيس، ولكني رجعت إلى كتاب سيبويه فوجدت هذا الشطر بالجزء الثاني (ص151) في باب نون التوكيد منسوبا إلى شاعر يسمى «مقنعا»، ولعل الأستاذ الشقنقيطي نسبه إلى امرئ القيس لما فيه من مدح كندة قبيلة الشاعر، وذكر الأستاذ الرافعي رأيه، فقال: والصحيح أن تلك الأبيات التي منها هذا الشطر موضوعة على امرئ القيس، لنزولها عن طبقته، وظهور الصنعة والتوليد فيها.
هذا وقد كان استشهاد سيبويه في كتابه بآيات من القرآن الكريم مدعاة إلى تحرج بعض العلماء أن يدرس الكتاب لغير المسلمين، قال صاحب كتاب الوافي بالوفيات: وكان المازني في غاية الورع، قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه فامتنع، فقال له المبرد: جعلت فداك! أترد هذه المنفعة، مع فاقتك وشدة إضاقتك؟! فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذميا، وغيرة على كتاب الله وحمية له. (9) الكتاب ودراسة النحو
أصبح كتاب سيبويه بعد أن ظهر للناس برنامجا لمن أراد الدراسة العليا في النحو، وأصبح الطالب لا يعد مستكملا هذا النوع من الدراسة إلا إذا قرأ كتاب سيبويه، وصار اسم الكتاب يطلق عليه، ويفتخر الطلبة بأنهم قرءوه، وممن باهى بذلك أبو نواس وغيره من شعراء العصر، وقد ذكرت فيما مضى مغالاة الناس بهذا الكتاب، وحرصهم على دراسته سواء أكانوا من محبي سيبويه أم من خصومه، ومن هؤلاء الأعلام الذين درسوا كتاب سيبويه في تلك العصور الأولى غير من ذكرناه فيما سبق: الجرمي، والزيادي، والسجستاني، وأبو العباس المبرد وغيرهم، ولم يكن يحسب العالم عالما في النحو إلا إذا درس كتاب سيبويه كله، قال أبو علي الفارسي: جئت لأسمع من ابن السراج سيبويه، وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر علي إتمامه، فانقطعت عنه لتمكني من مسائله، فقلت في نفسي بعد مدة: إذا عدت إلى فارس، وسئلت عن إتمامه، فإن قلت: نعم. كذبت، وإن قلت: لا. بطلت الرواية. (10) العناية بالكتاب
وكان كتاب سيبويه منذ تأليفه موضعا لمراجعة العلماء، منهم من يشرحه ومنهم من ينظم ترتيب أبوابه، ومن هؤلاء ابن السراج الذي ألف كتاب الأصول، وقد جمع فيه أصول علم العربية، وأخذ مسائل سيبويه، ورتبها أحسن ترتيب، كما أنه شرح كتاب سيبويه.
وممن شرح كتاب سيبويه أيضا سعيد بن المرزبان، والأخفش الصغير أبو سعيد السيرافي، كما قام بشرح شواهده يوسف بن سليمان الشنتمري.
ولم يقف كتاب سيبويه عند حدود المشرق، بل جاز البحر إلى بلاد الأندلس، وقد عقد الأستاذ الرافعي في كتابه تاريخ آداب العرب فصلا تحدث فيه عن كتاب سيبويه في الأندلس، فذكر أن أقدم ما وقف عليه ممن حفظ كتاب سيبويه هناك هو حمدون النحوي، المتوفى بعد المائتين، ثم ذكر من شهر بحفظ الكتاب وتدريسه وشرحه والتعليق عليه، مما يدل على ما لاقاه هذا الكتاب في الأندلس من الإجلال وحسن التقدير تقديرا لا يقل عن تقدير أهل المشرق له إن لم يزد، حتى كانوا يتنافسون في حفظه عن ظهر قلب، وقد قام بعضهم باختصاره للطلبة المبتدئين، ومن أشهرهم أبو حيان في القرن الثامن. (11) ما أخذه العلماء على سيبويه
صفحه نامشخص