شیوعیت و انسانیت در شریعت اسلام
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
ژانرها
المقدمة
تمهيد
مذهب الشيوعية
صاحب المذهب
أتباع المذهب
بواعث الشكاية
المذهب
المادية
الشيوعية والطبقات
الطبقات والإنتاج
صفحه نامشخص
القيمة الفائضة
حقوق الفرد
الشيوعية والآداب والفنون
الأخلاق
الآداب والفنون والمعارف والعلوم
الأوطان والديانات
الشيوعية والإسلام
الإسلام والشيوعية
محصول الدعوة
الحاضر
صفحه نامشخص
المصير
المقدمة
تمهيد
مذهب الشيوعية
صاحب المذهب
أتباع المذهب
بواعث الشكاية
المذهب
المادية
الشيوعية والطبقات
صفحه نامشخص
الطبقات والإنتاج
القيمة الفائضة
حقوق الفرد
الشيوعية والآداب والفنون
الأخلاق
الآداب والفنون والمعارف والعلوم
الأوطان والديانات
الشيوعية والإسلام
الإسلام والشيوعية
محصول الدعوة
صفحه نامشخص
الحاضر
المصير
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
تأليف
عباس محمود العقاد
المقدمة
تصدر الطبعة الثانية من هذا الكتاب بعد صدور طبعته الأولى بنحو ست سنوات.
وليست السنوات الست بالمدة القصيرة بحساب الحوادث العالمية والتجارب الكبرى في تاريخنا الحديث، وإن تكن قصيرة بحساب السنين، أو بحساب الزمن الذي انقضى بعد إعلان الفلسفة المادية التاريخية في منتصف القرن التاسع عشر.
بل ربما كانت السنوات الست في تاريخ الإنسانية الحديث أحفل بنتائج التجربة العملية من السنين التي نيفت على المائة منذ إعلان الفلسفة المادية؛ لأن تجربة السنوات الست الأخيرة أتت بعد نضج العهد الصناعي الأكبر، الذي جعله أئمة المذهب الماركسي أساسا لمبادئ مذهبهم ودعامة للنبوءات المحتومة التي تترتب عليه؛ ولأن الحوادث التي ارتبطت بتجربة المذهب المادي التاريخي في الزمن الأخير كانت على نطاقها العالمي الواسع أوفر عددا وأكثر تنويعا وأصح دلالة من جميع التجارب الصغيرة التي مرت بالمذهب من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.
صفحه نامشخص
وعندنا اليوم من دلائل الاتجاه إلى مصير المذهب في المستقبل تجارب القرن الماضي وتجارب السنوات الأخيرة، وكلتاهما قاطعة في الدلالة على ابتعاد العالم في اتجاهه المستمر عن مبادئ المذهب المادي للتاريخ، ولكن المرحلة الأخيرة - مرحلة السنوات القلائل منذ منتصف القرن العشرين - تشير إلى مسافة أوسع كثيرا في الاتجاه البعيد عن المذهب، سواء نظرنا إلى تطبيقاته المتعددة، أو نظرنا إلى نبوءاته التي هي أهم من التطبيقات في امتحان الأسس والدعائم التي قام عليها.
فالثابت اليوم أن المذهب الماركسي يحتاج إلى تعديل كبير في مبادئه الأساسية قبل وضعه في مواضع التنفيذ، وأنه - مع التعديل الكثير قبل الشروع فيه - لا يزال محتاجا إلى التعديل بعد التعديل في أثناء تطبيقه، ولا يزال كل تعديل من هذه التعديلات الكثيرة يبتعد به مسافة بعد مسافة في الطريق المخالف لطريقه، فلم يبق من الماركسية بعد هذه التعديلات غير أنواع من الاشتراكية الديموقراطية تناقض الماركسية في جوهرها؛ لأن الاشتراكية الديموقراطية بأنواعها جميعا تقوم على تضامن الأمة بحذافيرها، ولا تقوم على انفراد الطبقة التي يسميها الماركسيون «بالبرولتارية» ولا يشركون معها طبقة أخرى.
أما النبوءات المحتومة فقد كذبت جميعا، وظهر على الدوام أن نتائج السنين بعد السنين تذهب فيها من النقيض إلى النقيض.
فمن نبوءات الماركسية المحتومة أن البلاد التي تسودها الصناعة الكبرى هي أصلح البلاد لسيادة الماركسية فيها، فإذا بالنتيجة الواقعة في كل مكان أن الماركسية أفشل ما تكون في تلك البلاد، وأن هذه الماركسية تسود بمقدار خلو البلاد من الصناعة الكبرى، لا بمقدار غلبة الصناعة الكبرى عليها، ثم تتغير بها التجربة العملية لا محالة بعد بضع سنوات، فتتقدم إلى الاشتراكية الديمقراطية وتبتعد عن الشيوعية الماركسية بانتظام واطراد.
ومن نبوءات الماركسية المحتومة أن الثروة تنحصر شيئا فشيئا حتى تجتمع كلها في أيدي قليل من أصحاب رءوس الأموال، وتتجرد الأمم فيما عدا هذه الطائفة القليلة من كل شيء غير القيود والأغلال.
فإذا بالواقع المطرد أن رءوس الأموال تتوزع بين حملة الأسهم من أصحاب الموارد الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة بالمئات والألوف، وأن السلطان في تدبير الأموال يتوزع كذلك بين أصحاب رءوس الأموال وبين خبراء الصناعة وخبراء الإدارة وخبراء التسويق والترويج والإعلان، فلا انحصار على اطراد، بل توزيع وتنويع في الكفاية والصنعة على اطراد.
ومن نبوءات الماركسية المحتومة أن العامل المنفرد ينعدم بعد استقرار الصناعة الكبرى، فلا يتسع له مجال الرزق ولا مجال الحياة، فإذا بالعمال المنفردين يزدادون إلى جوار كل أداة صناعية من الأدوات الضخام، وإذا بالعمال المنفردين يصبحون طوائف وأنواعا في كل حرفة من الحرف، بحسب الاختلاف والتنويع في المكنات والأدوات، واختلافهم وهم مجتمعون في داخل المصنع كاختلافهم وهم منفردون متفرقون للاشتغال بصناعاتهم في البيوت والأسواق. •••
وقد صار بطلان هذه النبوءات أقوى الدلائل على بطلان الأسس التي قامت عليها، وهي تلك الأسس التي أفرط دعاة المذهب في وصفها بصفات التحقيق العلمي، وهي أبعد ما تكون من التحقيق.
ولو كانت النبوءات مما يبدو قبل مضي الزمن المقدور لها لسقطت الصفة العلمية عن هذا المذهب ولم ير فيه أحد من المحققين محلا للدراسة الجدية والمناقشة المنطقية، ولكن العلماء أعطوا هذا المذهب المتداعي فوق حقه من العناية؛ لأنهم قد اضطروا إلى انتظار النتيجة من تحقيقاته العملية بعد حين؛ ولأنهم من جهة أخرى قد تناولوه بالبحث العلمي عند ظهوره مجاراة لنزعة العصر في القرن التاسع عشر، وقد كان كل شيء فيه أهلا للدراسة العلمية، بعد أن حل العلماء محل الكهان في «تطويب» الآراء والدعوات.
على أنهم قد أسرفوا في العناية الجدية بهذا المذهب، وهو يحمل أدلة البطلان على وجهه بغير حاجة إلى التعمق الكثير وراء العناوين.
صفحه نامشخص
فإن الدعوى المجردة من السند هي صبغة هذا المذهب التي لا تخفى على ناظر إليه من النظرة الأولى؛ لأنه يطلب التسليم بالدعوى من التعريف، ثم يجعل التعريف حلا للقضية قبل ثبوته، وقبل ثبوت القضية من باب أولى.
فهو يقرر - مثلا - أن الإنسان حيوان منتج، ويعتبر هذا التعريف حقيقة مفروغا منها، ثم يثبت باستناده إليه أن الإنتاج هو قوام كل شيء في المجتمعات الإنسانية.
ولكن المسألة كلها لا تبتدئ بالإنتاج، بل لا بد قبلها من صفات أخرى في الإنسان قبل الوصول إلى هذه الصفة، وتلك هي؛ أولا: امتيازه بمطالب أخرى غير مطالب الحيوان، وهي ثانيا: قدرته على تدبير هذه المطالب بالإنتاج، وهي ثالثا: إنتاجه لما أراده حسب مطالبه وكفاياته، ثم يأتي الإنتاج بعد ذلك كله محكوما بمقدماته، وليس هو الحاكم لها على الجملة أو على التفصيل.
والماركسيون يقررون أن المادة مبنية على التناقض، ويعتبرون تعريفها بذلك حلا لقضية التناقض، وهو المشكلة التي تحتاج إلى الحل ، وليس هو التعريف والحل في آن.
ويقررون أن الطبقة هي الجماعة من الناس التي تخالف مصالحها مصالح سائر الطبقات، ثم يجعلون تنازع الطبقات سببا لأطوار التاريخ، ويطلبون التسليم بهذا التطور بعد اشتراط النزاع من الكلمة الأولى في التعريف.
ولقد ضلوا السبيل عن أقرب الطبقات إلى الطبقة البرجوازية، وهي طبقة الإقطاعيين، واسمها باللغات الأجنبية معناه طبقة المتنازعين
Feudal ، فكيف يصبح الإقطاعي الذي يحارب الإقطاعي مثله حرب المستميت عضوا في طبقة واحدة؟! وكيف يصبح التابعون للإقطاعي أعداء له، وهم يحاربون في صفه من كان تابعا للإقطاعيين الآخرين؟!
وهكذا يقوم المذهب كله على تعريفات سابقة لكل بحث وكل تحقيق، وما كان لأمثال هذه الدعاوى من حق في المناقشة الجدية - باسم العلم لولا نزعة العصر كله أيام المناداة بها، ولولا أن النبوءات الباطلة التي قامت على تلك الدعاوى كانت لا تزال في انتظار التجربة الواقعية، التي لا ننتظرها نحن أبناء العصر الحاضر؛ لأننا نلمس أنقاضها باليدين.
وكل ما بقي اليوم من الماركسية فهو هذه المذاهب الاشتراكية «للديموقراطية» التي قامت في أرجاء العالم على غير أساس من دعاوى الماركسيين، وقد تعاد طبعة هذا الكتاب مرة أخرى وهو من قبيل الكلام التاريخي المحفوظ بغير حاجة من وقائع الزمان إلى برهان عليه؛ لأن الواقع الملموس باليدين سوف يغني عن ذلك البرهان.
تمهيد
صفحه نامشخص
قبل منتصف القرن الماضي نشر «كارل ماركس» مذهبه الفلسفي الذي سماه بالتفسير المادي للتاريخ، وبنى عليه مذهبه الاقتصادي الذي سماه «الاشتراكية العلمية» تمييزا له من المذاهب الاشتراكية السابقة، وهي عنده اشتراكيات أحلام أو اشتراكيات «طوبى» لا تقوم على غير الأمل والخيال.
ولم تكن هذه «الاشتراكية العلمية» أقل نبوءات من المذاهب التي كان ينعى عليها أنها تجافي العلم وتنتكب طريق الواقع؛ لأن الاشتراكية العلمية التي آمن بها «كارل ماركس» قد تطوحت في نبوءات لا تنتهي إلى آخر الزمان، وادعت لنفسها أنها تفسر أسرار الكون وأسرار المادة في جميع ظواهرها، وأنها ترسم للتاريخ المقبل خطاه التي لا يحيد عنها ولا يزال مطردا عليها إلى غير نهاية، وهي نهاية أبعد في مجاهل الغيب من النهايات التي قدرتها الأديان الغابرة ببضعة آلاف من السنين؛ لأنها توغل في الآباد المقبلة إلى ملايين السنين، وتدعي باسم العلم - لا باسم الخرافة - أن الغيب المجهول لن يأتي بشيء في حياة الإنسان غير الذي رسمه «كارل ماركس» وفرغ منه قبل منتصف القرن التاسع عشر، وقبل أن يتقدم العلم نفسه وراء خطواته الأولى في العصر الحديث.
ولم تكن المسألة عند «كارل ماركس» مسألة تقديرات نظرية لا يترتب عليها شيء من العواقب غير تبديل نظرية بأخرى أو تنقيحها برأي يخالفها، ولكنها كانت مسألة أرواح ودماء وشعوب وأنظمة واجتراء على الماضي كله بالهدم والانتفاض، إيمانا بتلك النظرية التي لا تقبل الشك، ولا يستكثر على تحقيقها إهدار الدماء كالأنهار ولا تقويض المعالم الباقية كأنها من جهود عدو للإنسان، وليست من جهود الإنسان في جميع الأزمان.
وكان ينبغي للإيمان بتلك النظرية أن تقوم على أسس واضحة مقررة ثبتت في عقل صاحبها وفي سائر العقول ثبوتا لا شبهة عليه ولا مثنوية فيه، ولكنها في الواقع لم تثبت في ذهنه بتفصيلاتها ولم يفرغ من دراستها في حينها، وأرجأ التوسع في شرحها إلى الجزء الأخير من كتابه، ثم مات قبل أن يفرغ من ذلك الكتاب.
وعد «كارل ماركس» بإشباع القول في مسألة الطبقات، ومسألة القيمة «الفائضة» من كسب العمل، ومسألة التطور بين عصر الانتقال، وعصر المجتمع ذي الطبقة الواحدة، وكل هذه المسائل من صميم القواعد التي يقوم عليها مذهبه العلمي كما يسميه، ولكنه مات ولما يبين للناس حقيقة الطبقة الاجتماعية، ولا معنى القيمة الفائضة، ولا نظام الحكم بعد انتقاله إلى أيدي الطبقة العاملة، ولا الوسيلة التي يتم بها هذا الانتقال.
وعلى ضخامة الدعوى التي يدعيها «كارل ماركس» في نبوءاته الأبدية، تكشفت الحقائق في حياته، فإذا هي تنقض تلك النبوءات، وتدل على نقيض البقية الباقية منها، فلم يلتفت «كارل ماركس» إلى هذه النقائض البينة، أو التفت إليها ليقذفها ببعض اللعنات - غير العلمية - التي تعود أن يقذف بها كل ما يخالف تقديره وكل من يخالفه ، ومنها الرجعية والعامية والعقلية السطحية وخدمة رأس المال وخداع السواد والتعلق بالأوهام، وأشباه هذه المثالب والوصمات. •••
ولم تمض سنوات على وفاته حتى تعاظمت هذه النقائض على أتباعه، ووجدوا أنفسهم أمام تلك الضرورة التي تركها «كارل ماركس» في أوائلها، واستطاع أن يتجاهلها ويروغ من طريقها؛ لأنها لم تتعاظم في زمنه حتى تأخذ عليه جميع المنافذ والفجاج، فتذرع أتباعه بكل ذريعة غير الذرائع العلمية في تمحيص نبوءاته وتقديراته، وضعوا في أذهانهم أن «كارل ماركس» ينبغي أن يكون على صواب بأي حال، وأنه إذا تعذر إثبات صوابه بالمعنى الظاهر وجب التماس المعنى الذي يجعله مصيبا على وجه من الوجوه، وأنه إذا تعذر الفهم الصريح والتأويل الخفي معا وجب أن يبقى «منقحا»، ولو زال كل أثر من آثار الفكرة ولم يبق منها إلا التنقيح المزعوم، وخيل إلى الناس أنهم أمام طائفة من الدراويش يتبركون بخرقة من دثار ضريح مهجور، ويعنيهم أن يحتفظوا بخيط من تلك الخرقة كيفما كان، ولا يعنيهم أن يكون الدثار صالحا للكساء.
وطال الترقيع والتلفيق على أولئك الأتباع، فاضطروا إلى مواجهة الحقيقة، كما استطاعوا أن يواجهوها.
ظهر لهم أخيرا أن «كارل ماركس» غير معصوم، وقالوها كأنهم يستجمعون شجاعتهم للاجتراء على هذا التجديف المخيف، بل قالوها وهم يشتمون المنقحين؛
1
صفحه نامشخص
لأنهم حرفوا مبادئ «كارل ماركس» ولجئوا إلى التحريف ليحيدوا عن طريقه الذي رسمه أمام التاريخ إلى نهاية الزمان.
كان ينبغي أن يصمدوا على ذلك الطريق.
كان ينبغي أن يبقى ذلك الطريق مفتوحا دون غيره إلى نهايته القصوى، وأن يبقى «كارل ماركس» مقدسا متبوعا مرجوعا إليه في مآزق الفتنة والضلالة، وكل ما يجوز لأتباعه أن يفهموا أنه غير معصوم في الدلالة على ذلك الطريق الأبدي الذي لا طريق سواه، فمن الجائز عليه أن ينأى عن الجادة، وينحرف إلى التيه، وليس من الجائز لأتباعه أن يتخذوا من انحرافه دليلا على انحراف الطريق. •••
وقبل أربعين سنة أتيح لبعض أتباعه أن يقبضوا على زمام الثورة الروسية بعد انهيار دولة آل رومانوف. فجاءتهم هذه الثورة والمذهب الماركسي يتداعى ويتناقض بنبوءاته وتقديراته وتخريجات منقحيه ومنقحي منقحيه. وأمامهم في مفترق الطرق مسلك من مسلكين: إما أن يهملوا المذهب فيهلموا الحق الذي يبنون عليه قيادة الثورة وتأسيس الحكومة الجديدة، وإما أن يتشبثوا به لتطبيقه أو تجربة تطبيقه، ما استطاعوا التجربة والتطبيق، مع الاسترسال عند كل خطوة في التنقيح وتنقيح التنقيح، والاعتراف تارة بالقداسة وتارة بالعصمة حول دثار الضريح.
وتهيأ للتجربة الماركسية في بلاد القياصرة ما لم يتهيأ قط لمذهب من المذاهب الاجتماعية، واستباح المجربون والمطبقون والمنقحون جميعا ما لم يستبحه أشد المتهوسين تعصبا لدين من الأديان في سبيل نشر الدين والخلاص من الكافرين به أو المارقين عليه، ولم يحصر التاريخ من ضحايا الأديان منذ أيام الجهالة إلى العصر الحاضر عشر معشار الضحايا الذين ضاعوا بالملايين قتلا ونفيا وتعذيبا في سبيل النبوءات الماركسية، ولم تثبت بعد ذلك كله نبوءة من تلك النبوءات، بل ثبت بما لا يقبل الشك أنها مستحيلة على التطبيق.
ولا حاجة إلى دقائق المذهب البعيدة للحكم على نبوءات «كارل ماركس» الأبدية، ولا حاجة بالبداهة إلى الأبد كله ولا إلى بعضه - إن كان للأبد بعض مقسوم - للعلم بفساد هذه النبوءات واستحالتها على التطبيق، فإن الخطوط العريضة من نبوءات المذهب البارزة تكفي لبيان مصيرها بعد البحث الأمين والتجربة العملية، فإن قرنا واحدا كانت فيه الكفاية وفوق الكفاية لإثبات التناقض بين وجهة التاريخ ووجهة «كارل ماركس» في نبوءاته الأبدية؛ لأن بحوث القرن وتجاربه دلت على هذا التناقض الواضح وألجأت الماركسيين أنفسهم إلى التحمل الشديد في تخريج مقاصد إمامهم، أو إلى الاعتراف الصريح بخطئه وحاجته إلى التنقيح والتصحيح.
إن حرب الطبقات من دعائم المذهب الماركسي الذي لا بقاء له بغير بقائها، ومن ثم سمي المذهب بالمادية الثنائية أو المادية الحوارية على بعض التراجم اللفظية؛ لأنه يقوم على تتابع النقيضين بين الطبقة الماضية والطبقة التي تخلفها، إلى أن يحين الأوان المقدور ويأتي المجتمع الموعود الذي لا طبقات فيه.
وعلى هذا الأساس الذي لا قوام لنبوءات «كارل ماركس» بغيره، يجزم «كارل ماركس» بزوال الطبقة الوسطى من المجتمع قبل زوال رأس المال، ولا بد عنده من فناء الطبقة الوسطى بين طبقة رأس المال وطبقة العمال قبل ظهور المجتمع الذي يستولي العمال فيه على مواد الإنتاج.
على أن الإحصاءات التي سجلتها الأرقام قد أثبتت أن الطبقة الوسطى تزداد مع الزمن ولا تنقص كما جاء في النبوءات الأبدية، ولم تخرج هذه الإحصاءات من أيدي الخصوم المنكرين للمذهب من أساسه، بل جاءت من الأنصار المؤيدين الذين اضطرتهم الوقائع إلى الاعتراف بما لا يقبل الإنكار، وقد كان أول هؤلاء المؤيدين إدوارد برنشتين
2
صفحه نامشخص
الذي أراد بإحصائه في الحقيقة أن ينقذ المذهب من الضياع، فأثبت أن أصحاب الموارد المتوسطة يزدادون مع تقدم الصناعة الكبرى، واعتقد أن توزيع الثروة في نطاق واسع هو السبيل إلى اللامركزية التي خفيت «كارل ماركس»، وأن انقراض الطبقة الوسطى لا يحقق اللامركزية الموعودة، بل يحققها انتشار الثروة بين جميع الطبقات.
ولم يكن خطأ «كارل ماركس» في هذه المسألة الأساسية خطأ النقص في الإحصاءات التي يجهلها، ولكنه كان خطأ الهوى والتعنت أمام الواقع الذي لا يريد أن يراه؛ لأنه لا يوافق هواه، وكان كذلك خطأ القصور في الإدراك والتقدير الصحيح الميسور لمن يحسن التقدير، ولو لم تكن لديه أرقام ولا سجلات إحصاء.
كان رأس مال الصناعة في مبدأ أمره محصورا في أيدي أصحاب المصانع المعدودين، وكان صاحب المصنع الكبير واحدا أو اثنين من أسرة واحدة، أو كانوا ينتمون إلى أسرات قليلة مشتركة في رءوس الأموال.
ولكن هذه الحالة أخذت في التغير على أيام «كارل ماركس» وقبل إتمام كتابه، فظهرت الشركات المساهمة وكثر المشتركون فيها بالأسهم الكثيرة أو القليلة، وكان على «كارل ماركس» أن يفهم أن رءوس الأموال تتوسع على هذا النحو ولا تنحصر في أيد معدودة كما اعتقد أو أراد، وأن انقراض الطبقة الوسطى ليس بالأمر المحتوم على هذا التقدير، وأن اليوم الذي يشترك فيه العمال أنفسهم في رءوس الأموال غير بعيد، وأن النبوءة عن هذه النتيجة كانت على متناول يديه لو أنها توافق هواه، ولكنه أهملها ليبحث عن النبوءات التي توافق ذلك الهوى الدفين، وكله من هوى التخريب والعدوان.
ولقد كانت الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى أكبر معول ولا ريب في أساس الاشتراكية العلمية كما شرحها صاحبها ومريدوه.
كانت نبوءات «كارل ماركس» تقضي بقيام الشيوعية في البلاد التي بلغت بالصناعة الكبرى غاية أشواطها، فإذا بالشيوعية تقوم في البلاد التي لم تعرف من الصناعة الكبرى غير خطواتها الأولى، وإذا بهذه القاعدة تسري على البلاد المتأخرة فلا تقوم للشيوعية قائمة في غيرها، ولو إلى حين.
وكان من لوازم الاشتراكية المادية أو الاشتراكية العلمية أن تكون الصناعة الكبرى هي التي تخلق النظام السياسي وتمهد له بانتهاء الصناعة الكبرى إلى نهايتها، فإذا بالنظام السياسي هو الذي يخلق الصناعة الكبرى في البلاد الروسية وغيرها من البلاد التي تقتدي بثورتها.
وكان «كارل ماركس» يحكم على الصناعة كما رآها في زمانه، وكانت هذه الصناعة من البساطة بحيث تستولي عليها الأيدي العاملة وتحسن إدارتها، فإذا بالصناعة تتعقد وتتصعب وتتشعب حتى تتعذر إدارتها على غير الخبراء في علوم المكنات وعلوم الكيمياء، وعلوم الاقتصاد، وما يقترن بهذه العلوم جميعا من المعارف النفسية والمعارف السياسية أو التاريخية، وإذا بطبقة أخرى غير طبقة الأيدي العاملة تستولي على وسائل الإنتاج، وتبلغ من التحكم فيها ما لم يبلغ أصحاب رءوس الأموال.
وانتهت التجارب العملية بعد أربعين سنة، إلى وجهة مختلفة تبتعد شيئا فشيئا من الوجهة التي تحراها «كارل ماركس» ومريدوه، ومن النبوءات المحتومة التي بلغ القوم من التشبث بحروفها في دعواهم ما لم يبلغه عباد النبوءات الأقدمون.
انتهت التجارب العملية إلى إباحة الملكية الفردية على صورة من الصور، وإلى السماح بالتفاوت الكبير بين الأجور، وإلى حكومة مطلقة تدوم أربعين سنة، وتستبد بالعمال بدلا من استبداد العمال بها دون طبقة المنتجين والمديرين.
صفحه نامشخص
والناس اليوم ينظرون إلى الطبقة الحاكمة في بلاد القياصرة الأقدمين، فيرون أنهم أفخر وآنق في ملابسهم وشاراتهم وركائبهم من زملائهم الذين ينوبون عن بلاد رأس المال في المؤتمرات العالمية، وما من أحد يلج بالمكابرة فيزعم أن جميع الطبقات في بلاد الشيوعية تتزين بهذه الأزياء وتتحلى بهذه الشارات، وما من أحد يلج بالمكابرة، فيزعم أن سلطان أصحاب الأموال قد كان على أقواه وأعتاه يزيد على سلطان ملوك الإنتاج اليوم في البلاد الشيوعية، بل ما من أحد يلج بالمكابرة حتى يزعم أنه داناه زمنا أو يدانيه. •••
وانطوت مائة سنة على ظهور النبوءات الأبدية، وانطوت أربعون سنة على تجربتها وتطبيقها والإصرار على إثباتها أو على تخريجها وتأويلها، فلم يثبت لها حظ من التحقيق العلمي إلا أن يكون خط المناقضة والمفارقة، ولم تستقم خطوطها العريضة كما رسمها صاحبها، وحتم على المستقبل كله غاية التحتيم أن يلتزمها، ولا ينحرف عنها قيد شعرة ذات الشمال ولا ذات اليمين، وهذه نتيجة المذهب في خطوطه العريضة التي كان ينبغي أن تثبت قبل غيرها؛ لأنها هي الناحية البارزة لجميع الأنظار من المؤمنين والمطلوبين للإيمان، فأما الخطوط الدقيقة والمعلومات البعيدة، فهي من التخاذل والتشعث وقبول الرأي ونقيضه في وقت واحد، بحيث لا تصلح للاستشهاد بها على مذهب واحد كائنا ما كان.
ولو كان «كارل ماركس» ممن يرعون أمانة العلم؛ لتهيب الهجوم على تلك المجازفات باسم الحقيقة العلمية؛ لأن العلم بعد ازدهاره في العصر الحاضر لم يصل إلى الحد الذي يخوله دعوى الإحاطة الشاملة بأسرار الكون، ودعوى القدرة على تطبيق تلك الأسرار الشاملة على تاريخ الإنسان في مجاهل المستقبل البعيد إلى آخر الزمان.
فأما في عصر «كارل ماركس» فالعلم الذي كان يحبو في خطواته الأولى أحرى أن يقف دون هذا الشوط البعيد وقفة الحذر والإحجام، وتلك الإحصاءات التي يجمعها «كارل ماركس» من هنا وهناك لم يكن منها إحصاء واحد متسلسل المصادر محقق المراجع على النحو الذي يسمح بالمقارنة الصادقة، ويدعو إلى الثقة بالنتيجة القريبة فضلا عن النتائج القصوى.
بل لو كان «كارل ماركس» مخلصا لمذهبه لتردد في دعواه العلمية أشد من تردد المخالفين له من أبناء عصره.
إذ كان العلم على مذهبه مصطبغا بالصبغة البرجوازية، مسخرا لخدمة الطبقة الاجتماعية القابضة على زمام الإنتاج، فهو علم ناقص مدخول لا تستقيم النتائج منه في جميع الأحوال، ولا يستطيع «كارل ماركس» أن يزعم أن عبقريته الفردية تناولت ذلك العلم البرجوازي فصححته وخلصته من شوائبه ونفت عنه الزيف قبل زوال سلطان البرجوازية ورأس المال، فإن العبقرية الفردية عنده لا تنشئ علما مستقلا عن الظروف الاجتماعية، ومن قال بجواز ذلك فإنما يهدم التفسير الاقتصادي للتاريخ، كما شرحه «كارل ماركس» هدما ذريعا لا يبقيه على قرار.
إلا أن «كارل ماركس» لا تعنيه أمانة العلم في مذهبه ولا في مذهب غيره، ومن ضياع الوقت على غير طائل أن يناقشه المناقشون على القواعد العلمية، وهم يقذفون بالعلم والعقل إلى عرض البحر ساعة يسلمون دعواه، ويأخذون مأخذ الجد في إنكار زعمه أنه قبض على زمام القوانين المادية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، واتجه بها إلى الوجهة التي لا تحيد عنها يوما في مجتمعات بني الإنسان ما بقي للإنسان وجود.
إن الذي يسلم هذه الدعوى يهزل ولا يجد، ويكلف العلم شططا لا يحسب من العلم في شيء.
وما بقي اليوم من أحد يسلم لهذه الدعوى صفة العلم إلا أن يكون واحدا من فريقين: الفريق الأول أتباع «كارل ماركس» الذين أسسوا برامجهم على مذهبه، وارتبطت دعايتهم في أقطار العالم بنبوءاته، وأوغلوا في الطريق التي لا رجوع عنها في أمان إلا بعد نسيان هذه الدعاية، واستعداد الأتباع والأشياع لمواجهة الواقع غير مصطدمين منه بصدمة المفاجأة.
فهؤلاء يعلمون من التجربة العملية أن مذهب «كارل ماركس» مناقض للعلم والعمل ومتعذر التطبيق والتنفيذ بحروفه أو بعد التصرف الكثير فيه، ومعاذيرهم التي يعتذرون بها لمخالفته أنهم لا يزالون في أول التجربة بين عقابيل الماضي ومقاومة الخصوم، وأن الأمر يدعو إلى قليل من المساومة والهوادة ومجاراة الظروف إلى حين، ثم إلى حين آخر بعد ذلك الحين.
صفحه نامشخص
أما الفريق الآخر ممن يناقشون النبوءات الماركسية أو النبوءات الأبدية مناقشة العلم المعقول، فهم أولئك الذين يضيعون العلم في سبيل السمعة العلمية، وهم أشباه الذين قيل فيهم إنهم يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل، وإنهم ينصفون في تمحيص جميع الآراء ولا يتعسفون.
فإذا نظر الباحث في أقوال هؤلاء وهؤلاء علم أن الفريقين من العلم براء، وأن مذهب «كارل ماركس» إنما يبحث على أنه ظاهرة نفسية، ولا يبحث على أنه مبادئ علمية مع إنصاف العلم والعقل وإنصاف الواقع والعيان، بعد مائة سنة من ظهور المذهب، وبعد أربعين سنة من محاولة تطبيقه بكل ما يستطاع من المحاولات.
إن فهم جميع المذاهب يستلزم على الدوام فهم صاحب المذهب بلوازمه العقلية وبواعثه النفسية وخلائقه التي توحي إليه بالفكر والشعور، أو يستعان بها على أفكاره ودوافع شعوره.
وفهم «كارل ماركس» بصفة خاصة ألزم ما يكون لفهم مذهبه الذي سول له - في هذه السهولة - أن يهجم على دعوة لا تقنع بما دون هدم العالم الإنساني القائم، ولا تصغي إلى هوادة في الأمر تتقبل الإبقاء عليه بحال من الأحوال.
إن شهوة الهدم والتخريب هي التي توحي إلى صاحبها الثقة التامة العامة بتلك النبوءات الأبدية في غير هوادة ولا توسط ولا اعتدال، ولو كان الأمر على عكس ذلك وكانت الثقة العلمية هي التي توحي إلى صاحب المذهب أن يدعو إلى هدم كيان العالم لوجب أن تكون تلك الثقة قائمة على أركان من الحقائق لم يعهد لها نظير في تقريرات بني الإنسان، إذ لم يسبق لإنسان أن يدعو إلى مثل ذلك الهدم بكل ما في وسعه من لدد وإصرار.
ولو أن إنسانا أراد أن يهجم على هدم بلدة واحدة فوق أصحابها، لكان لزاما عليه أن يلتمس لهدمها أسبابا أقوى من جميع الأسباب التي سولت ل «كارل ماركس» هدم المجتمعات الإنسانية بكل ما فيها على كل من فيها من معارضيه ومخالفيه، وسولت له أن يستبيح من أجل هذه الدعوة سفك الدماء كالبحار، ومتابعة القتل والتخريب في قطر بعد قطر إلى جميع الأقطار.
وماذا لو كان في النبوءة خطأ يسير، وقد ظهر فيها الخطأ الكبير، بل ظهرت فيها الأخطاء الكبار؟ ألا يدعو ذلك إلى قليل من التردد وقليل من الهوادة في اللدد والإصرار؟ بلى، إنه ليدعو إلى التردد الكثير وإلى التحرج الكبير من عواقب ذلك التهجم على المجهول، لو لم تكن شهوة الهدم والعدوان هي مصدر الوحي الأثيم وعلة العلل في ذلك التفكير العقيم.
وهذا في الواقع هو معنى الثبوت العلمي في مذهب «كارل ماركس» إذا درسناه من وجهة الظواهر النفسية، ولم نضع الوقت عبثا في مناقشة النبوءات التي لا يقبلها العلم على وجه من الوجوه.
فكلمة «الثابت العلمي» مرادفة في مذهب «كارل ماركس» لكل ما هو لازم لإشباع شهوة التخريب والعدوان.
وكل شيء يعوق الدعوة إلى التخريب والعدوان، فهو عنده باطل ينكره العلم، وضلال تمليه الأحلام والأوهام.
صفحه نامشخص
وليس ثبوت القيمة الفائضة أو حرب الطبقات أو النقائض المادية؛ لأنها واقع قائم في حوادث التاريخ أو حوادث العيان. كلا، بل هي ثابتة جميعا ببرهان واحد دخيل في طبيعة «كارل ماركس»، وهو لزومها لإشباع شهوة التخريب والعدوان.
كانت ثورته على برامج النقابات في عصره أعنف الثورات، وكانت الخيانة وانتهاز الفرص أيسر التهم التي صبها على رءوس القائمين بدعوة النقابات؛ لأنهم آمنوا بإمكان الإصلاح بغير هدم العالم الإنساني كله على رءوس من فيه.
ومع هذا مضت حركة النقابات على سوائها، فحققت للعمال والصناع قبل خمسين سنة - بغير حاجة إلى سفك الدماء وتخريب العمار - إصلاحا لم تحققه الثورة الماركسية مع سلب الحرية وإهدار دماء الملايين من الأبرياء.
ولكن لا بريء في رأي «كارل ماركس» إذا حالت حياته وحياة الملايين من أمثاله دون إشباع شهوة التخريب، ولا حقيقة في العلم الماركسي لإصلاح ملموس باليدين إن لم يسفك الدماء، وينشر الخراب في المشرقين والمغربين.
وهكذا يثبت الشيء في العلم الماركسي بمقدار لزومه؛ لإشباع تلك الشهوة لا بمقدار ما يعززه من الحقائق والبراهين.
ودراسة «كارل ماركس» على ضوء الظواهر النفسية أقرب الدراسات إلى فهم مذهبه وفهم البواعث التي تمليه وتوسوس به في ضميره وضمائر المتقبلين لدعوته والمجبولين على غراره، فما من صورة «علمية» ل «كارل ماركس» تترك بعدها مجالا للشك في طبيعة المذهب الذي يدعو إليه، وما من خير يخطر على البال أنه يصدر من نفس كتلك النفس، يملؤها الحقد والسوء، وينبعث منها على عمد وعلى غير عمد فيما تعلنه وتخفيه.
ومن ثم نرى لزاما علينا أن نبدأ دراسة الماركسية بدراسة «ماركس» نفسه، كما صورته لأبناء عصره سيرة حياته المحفوظة في سجلات أتباعه ومتاحف وثائقه وذكرياته، وحسب القارئ أن يلم بهذه الصورة الواضحة؛ ليريح ذهنه من متاعب البحث في «النبوءات الأبدية» التي بشر بها نبي السوء في زمانه، ثم يريح ذهنه من الخلط والخبط في رطانة المذهب بين المادية والحوارية والنقائض الاجتماعية. وبين العمل وكسب العمل وفيض العمل وحق العمل، وسائر هذي الأغاليط التي جاء بها شيء واحد هو لزومها لتحقيق تلك النبوءات، فسيعلم القارئ بغير جهد جهيد أي لزوم لمبدأ من تلك المبادئ كلما علم لزومه لفتح الطريق إلى الغاية التي لا محيد عنها، وهي هدم العالم الإنساني على من فيه بغير إصغاء قط لشفاعة من شفاعات السلم أو التوسط في الإصلاح.
إن صورة «كارل ماركس» هي مفتاح مذهبه ومذهب الحقد والسوء في نفوس أمثاله، وها هي صورته الصادقة بملامحها الناطقة، لا ينكرها أنصاره ولا يقدرون على إنكارها، وإن كانت أحق شيء منهم بالإنكار.
مذهب الشيوعية
صاحب المذهب
صفحه نامشخص
سلك الماركسيون في ترجمة زعيمهم بعد وفاته مسلكين متناقضين: عدلوا من أحدهما إلى الآخر بعد شيوع ذكره واستفاضة أخباره ونشر الكثير من الوثائق المطوية عن حياته وعلاقاته بأسرته وصحبه وزملائه، مما يحتاج إلى تفسير أو توفيق بينه وبين المنزلة الرفيعة - بل المقدسة - التي أرادوا أن يرفعوه إليها على إنكارهم لكل قداسة إنسانية أو إلهية.
سلكوا في بداءة الأمر مسلك التقديس والتطويب، ثم عدلوا عنه إلى الاعتراف بالنقائص والأخطاء مع الاحتراس والمراوغة، ولم يلبثوا أن توسعوا في الاعتراف بما لا بد منه مع تطاول الزمن وتداول الأخبار عن الخفايا والأسرار، وكان اعتذارهم الذي يدورون حوله كلما صدم الناس بخفية جديدة من خفاياه: إن شخص الرجل شيء ومذهبه شيء آخر، وإن أعمال الرجل الاجتماعية بمعزل عن حياته الفردية، تطبيقا لرأي «كارل ماركس» نفسه حيث يقول: إن «الشخصية الفردية» ناقلة لا أثر لها في المجتمع ما لم يكن لها تمهيد أو مساندة من الظروف الاجتماعية.
ولم يلبثوا مرة أخرى أن توسعوا في الاعتراف بالنقائص والأخطاء عن قصد يدارونه تارة ويعلنونه تارة أخرى، إذ كانوا يشعرون بالحاجة إلى التحلل من قيود المذهب كما وضعه «كارل ماركس»، كلما تعثروا في تطبيقه وتتابعت العقبات أمامهم في كل خطوة من خطوات التنفيذ والاختيار، ولا يزالون يترخصون في تطبيق المبادئ الماركسية، ويلتمسون لذلك المعاذير من مصاعب الابتداء واستحالة الطفرة وضرورة الأناة والاعتدال في أطوار الانتقال، وينسون أنهم على طول الزمن يبتعدون من النتيجة التي يريدونها، وتتسع الشقة بينهم وبينها في كل عام وفي كل مشروع من المشروعات التي يقيمونها على قواعد المذهب كما يقولون.
ولقد كان غاية ما ينتظر من أتباع الماركسية المؤمنين بقواعدها أن ينتقلوا من التقديس والعصمة إلى نفي التقديس والعصمة وكفى.
كان حسبهم أن يصبح «النبي المرسل» غير مقدس وغير معصوم لو وجدوا في ذلك مقنعا للعقول التي تفاجأ في كل يوم بعيب من عيوب «النبي المرسل»، لا يكفي لقبوله نفي القداسة والعصمة والنزول به درجة أو درجتين دون مرتبة الكمال.
كان حسبهم هذا لولا أن عيوب الرجل تنزل به دون ذلك كثيرا في كل تقدير، فليس قصاراه أنه كامل يأتيه النقص عرضا في بعض الحالات والفلتات، بل حقيقة أنه ناقص يتحول فيه النقص إلى قوة بحكم الظروف.
من مترجميه الذين واجهتهم هذه الضرورة «أوتو روهل» صاحب كتاب «كارل ماركس: حياته وعمله» الذي ترجمه إلى اللغة الإنجليزية «إيدن» و«سيدار بول».
1
فهذا الكاتب يدين بالمذهب الماركسي ويؤمن بالتفسير الاقتصادي للتاريخ، ولكنه لا يرى مناصا من تفسير نقائص أستاذه باختلال جسده، فيقول بنص عبارته كما ننقلها من الترجمة الإنجليزية: «إنه كان نموذجيا فيما كان يعانيه من اعتلال نشاطه الروحي،
2
صفحه نامشخص
وكان على الدوام متقلبا مبتئسا حقودا، لا يزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم والانتفاخ وهياج الصفراء، وكان موسوسا
3
يغلو كجميع الموسوسين في الشعور بمتاعبه الجسدية، وكما كان يعتمد في الطعام الذي لا ينتظم فيه على الاستعانة بالتوابل والأبازير والمخللات وبيض السمك المملح وما إليها، كان يستعين بأمثال ذلك في عمله وعلاقاته بغيره، ولا يخفى أن الأكل السيئ عامل سيء وزميل سيء في الوقت نفسه، فإما أن يحجم عن الأكل أو يفرط فيه، وإما أن يكسل عن العمل أو يرهق نفسه فيه بما لا يطيقه، وإما أن ينقبض عن معاشرة الناس أو يتخذ له صديقا من فلان وعلان وبدران وزيدان، هؤلاء على الدوام متطرفون لا تحتمل معداتهم ولا رءوسهم ولا أرواحهم
4
مفاجأة الاختلاف، وكذلك كان «كارل ماركس» في صباه عاجزا عن المثابرة على دراسة ترشحه لعمل يعينه على مطالب العيش. وأصبح في كهولته عاجزا عن المثابرة على جهد من الجهود العقلية يتكفل بغذاء الشخصية كلها، فلم تكن له صناعة ولا مكتب ولا شاغل منتظم ولا وسيلة من وسائل المعيشة، وما من شيء لديه إلا وهو موكول إلى المصادفة والارتجال والاضطراب، وبدلا من الانتظام في سماع المحاضرات في أثناء دراسته ليستعد بذلك للعمل المنتظم راح يحشو معدته بأخلاط التوابل الفلسفية والأدبية، وتعاورته على الدوام قلة الصبر على رياضة النفس وضعف الإحساس بالنظام ونقص القدرة على الموازنة بين المورد والمصروف، وكانت تنقضي الشهور ولا ينشط لكتابة سطر واحد، ثم يقذف بكل قواه على عمل جسيم كأعمال المردة والجبابرة، فيسلخ الليالي والأيام ملتهما بالمطالعة مكتبات كاملة، راصا من حوله أكداسا من القصاصات، مالئا بالتعليق والتدوين كراسات فوق كراسات، تاركا خلفه آكاما من الكتابة المخطوطة يبدؤها ويهملها، ولا ينتهي منها إلى نتيجة ولا محصول». •••
على هذه الصورة يتمثل «كارل ماركس» كاتب يدين بالمادية الثنائية وبالتفسير الاقتصادي للتاريخ، ثم يمضي في سرد هذه العيوب في إمام مذهبه ليقول: «إنه قد استمد من الضعف قوة، واستخرج من النقص تعويضا يغطي عليه.»
ونعتقد أن الكاتب لم يكن ليسترسل في تصوير إمامه على هذه الصورة، لو أمكنه أن يسكت عن الجانب المهم منها وهو عجزه عن العمل المنتج ونزوعه إلى هدم ما يبنيه بيديه. ولكن الكاتب لا يستطيع أن يدعي ل «كارل ماركس» حبا أشد من حب أبيه، وليس في وسعه أن يمحو الوثائق التي تحتوي فيما احتوته أقوال أبيه عنه وكتاباته إليه، ومنها رسالة يقول فيها «ماركس» الأب: «إن بعض الناس ينامون ملء عيونهم إلا أن يستدعيهم السرور إلى سهر الليل كله أو بعضه، على حين يقضي ولدي الموهوب الذكي «كارل» جملة لياليه مرهقا جسده وعقله في دراسة لا لذة فيها، معرضا عن جميع الملهيات في طلب المشكلات الغامضة؛ ليهدم غدا ما بناه اليوم، ويرى بعد ذلك كله أنه أضاع ما لديه، ولم يستفد شيئا مما لدى الناس.»
5
أما هذا الخلل الملازم ل «كارل» من مطلع حياته فله عند «أوتو روهل» تعليلات كثيرة، منها مرض الكبد المتأصل واعتلال بنيته اعتلالا ينبئ عن وهن أصيل في التركيب، ومنها انتسابه إلى الملة اليهودية في بلاد تنظر إلى هذه النسبة كأنها وصمة اجتماعية، ومنها آفة الولادة الأولى، أو ما ينتاب تربية الولد الأول من عوارض التدليل والانفراد. ويفتتح «روهل» فصله عن «ماركس» الرجل بتزكية المذهب المادي في تفسير حالة الفرد وتفسير أحوال الجماعات على السواء، فيقول مبتدئا بتقرير هذه العقيدة: «وإذا كان التفسير المادي للتاريخ كما هو في الحق أصدق تفسير لمجرى الحوادث التاريخية، فمن الواجب ألا يصدق على الجماعات التي تتولى تنفيذ تلك الحوادث وحسب، بل ينبغي أن يصدق كذلك على الأفراد الذين تتجسم فيهم ظواهرها، إلا أن تطبيق التفسير المادي للتاريخ بالنسبة للجماعات مهمة من مهام الدراسات الاجتماعية. بخلاف تطبيقه على الأفراد فإنه مهمة من مهام الدراسات النفسية.»
وخلاصة المقارنة بين حالة «كارل ماركس» وحالة البيئة التي نشأ فيها أن «كارل ماركس» الفرد لا يعنينا بمعزل عن آرائه الاجتماعية وعن الظواهر التي عملت على إخراج تلك الآراء.
صفحه نامشخص
وهذه هي الحيلة التي أراد الكاتب المؤمن بالمادية التاريخية أن يحتال بها على إغفال عيوب إمامه في معرض الكلام على مذهبه، ولعلها حيلة تنفع كل قائل غير القائلين بتفسير عقائد الناس وآرائهم بأحوالهم المادية ومطالبهم الجسدية، فإن الذي يعتقد أن الديانات والأخلاق والآراء إنما هي صدى المطالب الجسدية التي يحسها الناس، لن يستطيع التخلص بهذه السهولة من أثر البنية في تكوين آراء صاحبها، ولن يستطيع أن يزعم أن هذه الآراء تأتي سليمة مطهرة من نفس مريضة مختلة مطبوعة على الحقد والضغينة، وإذا استحال على الأمة في مجتمعها أن تتخلص من دواعيها الجسدية حين تدين بالدين، وحين تتعود العادات، وحين تشرع الشرائع، وحين تتذوق الجمال وتبتدع فنونه وتماثيله، فليس في مقدور الفرد أن يتخلص من نوازعه وشهواته ولا من أهوائه المتأصلة في تركيبه، وليس من المعقول أن يتساوى الرجل المطبوع على الضغينة والرجل المطبوع على سلامة الطوية في بواعث التفكير ومواجهة المسائل التي يصبغها بصبغة عقله هواه، ومن قال بذلك فهو من القائلين بالعزل بين الروح والجسد، وليس من القائلين بتغليب الجسد على كل فكرة وكل عاطفة وكل شعور. •••
ومهما يكن من جدوى هذه المعاذير، فهناك سؤال حتم يبقى على الشيوعيين أن يجيبوه، وهو: هل يعتبر «كارل ماركس» بهذه الأخلاق فردا صالحا في مجتمع من المجتمعات الإنسانية كائنا ما كان؟ وهل يكون فردا غير صالح، ويجوز مع ذلك أن يكون إماما صالحا لتأسيس المجتمعات المثالية من يومه إلى أقصى الآماد المجهولة؟
وأيا كان جوابهم على هذا السؤال الحتم، فلا شك أن هوان الأخلاق عليهم هو مرجع الفضل في تهوين الاعتراف بتلك العيوب على زعيمهم وإمامهم، وإن يكن فضلا غير مشكور.
ويشبه هذه الصورة التي رسمها «روهل» صورة أخرى رسمها زعيم من أكبر زعماء المذاهب الهدامة في عصره وهو «باكونين» زعيم «الفوضوية» الذي تلقى عنه «ماركس» أوائل دروسه في المذاهب الاجتماعية، وهو رجل له عيوبه وهناته، ولكنه من طراز في الأخلاق غير طراز «كارل ماركس». ولم يكن من خلاله المشهورة خلة الحقد وافتراء الأكاذيب على عمد لخدمة الدعاية أو شفاء الضغينة، بل كان على نقيض ذلك سريعا إلى الاعتراف بصواب غيره إذا تبين له صوابه، قريبا إلى الصفح عن خصومه الذين لا يتورعون عن اختلاق التهم عليه لتشويه سمعته والتشكيك في نياته، وقد اتهمه «ماركس» بالجاسوسية، وأحيلت هذه التهمة على لجنة من أقطاب الثوار لتحقيقها ، فثبت لهم تزوير الوثيقة التي تستند إليها، وكان «باكونين» حاضرا في جلسة التحقيق والمناقشة للدفاع عن نفسه فأخذ الورقة المزورة ولم يتشبث بإدانة مزوريها بل أحرقها بيديه، وبسط كفه للداعية الألماني «ليبكنخت» الذي كان يتولى اتهامه بالنيابة عن «ماركس»، فصافحه وختم هذه المهزلة باستئناف العمل معه والنزول عن حقه في إلصاق شبهة التزوير به وبأستاذه الموعز إليه.
يقول «باكونين» هذا عن «ماركس» وهو يعقد المقارنة بينه وبين «ماتسيني» زعيم الوطنية الإيطالية: يحب «كارل» نفسه أضعاف حبه لأصدقائه ومريديه، وما من صداقة تصمد لحظة إذا مسته لحظة في غروره وكبريائه، وأيسر من ذلك جدا أن يغفر الإساءة أو الخيانة لدعوته الفلسفية ورسالته الاجتماعية، فإنه ينظر إلى هذه الخيانة نظرته إلى علامة من علامات القصور العقلي أو علامات امتيازه على صديقه فيرى فيها نوعا من التسلية المرضية، وقد يكون هذا الصديق أحب إليه وأدنى إلى قلبه؛ لأنه يأمن أن يكون مزاحما له في رسالته أو منافسا على القمة العليا في شهرته، غير أنه لا يغتفر أبدا أصغر الإساءات إلى شخصه، ولا بد لك من أن تعبده وتتخذه وثنا تصلي بين يديه إن أردت أن تظفر بمودته، أو لا بد لك من أن تخافه وتهابه إن أردت أن يحتملك ويصبر عليك، وهواه دائما أن يحيط نفسه بالأقزام والحجاب والمتزلفين، ولا يمنع ذلك أن يحيط به بعض ذوي الأقدار.
أما على الجملة فلك أن تقول: إن أصحاب «ماركس» تندر بينهم صراحة الصداقة، وتكثر بينهم الدسائس والمناورات، وهم متفاهمون ضمنا على المكايدة والصراع والمساومة على مرضاة الغرور المتبادل بين زمرتهم، ولا موضع لشعور الصداقة حيث يعمل الغرور وتسود الأثرة، فكلهم على حذر، وكلهم متوقع للتضحية به والقضاء عليه، وليست جماعة «ماركس» إلا جماعة التزلف المشترك، وهو بينهم الموزع الأكبر للأقدار والدرجات، والمحور الأكبر كذلك للغدر والكيد والدسيسة. لا يتفتح أبدا ولا يستريح للصراحة يوما. بل يحرض أبدا على اضطهاد من يستريب فيه أو من يقوده سوء حظه إلى التقصير عن إكباره كما ينبغي له من الإكبار في نظره. ومتى بدا منه الإذن في الاضطهاد، فلا حدود للخسة واللؤم في الذريعة التي يتذرعون بها لقضاء إربه، ولما كان هو نفسه يهوديا فقد أحاط نفسه في لندن وباريس، وفي ألمانيا قبل كل شيء بنفر من اليهود الصغار على حظ متفاوت من المقدرة على الدس والنشاط والمغامرة كسائر أمثالهم، حيث كانوا بين الموظفين التجاريين وعمال المصارف والمشتغلين بالأدب والسياسة، أو هم بعبارة أخرى سماسرة في الأدب والسياسة كزملائهم السماسرة في الصفقات التجارية، قدم في المصرف والقدم الأخرى في مراكز الحركة الاجتماعية، ولهم عشيرة كبرى في ألمانيا بين أدباء الصحف الدورية، وإن هؤلاء المتأدبين من اليهود لذوو براعة في صناعة الجبن والواقعية والإيغار والمكيدة تسمعهم يقولون كأنهم يترددون: يشاع، يزعمون، لعله غير صحيح ... ثم يقذفون بأخبث التهم في الوجوه.
ومما كتبه «باكونين» عن «ماركس» إلى «هرزين»:
6 «إن «ماركس» قد خدم قضية الاشتراكية خمسا وعشرين سنة بمقدرة ونشاط وإخلاص، ولن أغفر لنفسي - لو أنها سولت لي من جراء البواعث الشخصية - أن أهدم عمله أو أغض من شأنه.»
وقد أعلن «باكونين» صواب «ماركس» في بعض المسائل الفلسفية والسياسية التي اختلفا عليها، وأن «ماركس» لا يتورع عن الانتقام من مخالفيه باختلاق التهم عليهم، وأنه لا يتورع عن الانتقام من أحد يرتفع إلى المكانة العليا في الدعوة الاجتماعية وإن لم يكن بينهما نقاش على الخطأ والصواب، وقال وهو يذكر جملة «ماركس» على «برودون»:
7
صفحه نامشخص
إن «ماركس» ينطوي على خليقتين ذميمتين: الغرور والغيرة، وما كان بعضه ل «برودون» إلا لأنه مشهور جدير بالشهرة، وما من مسبة يحجم عن صبها على رأسه؛ لأنه أناني يفرط في أنانيته لحد الجنون، وتسمعه يتحدث قائلا: أفكاري، آرائي، وينسى أن الأفكار والآراء ليست ملكا لأحد على التخصيص، وأن أصلح الآراء تلك التي تتمخض عنها البديهة العامة. •••
وتكاد هذه الصورة أن تبرز بجميع ملامحها للناظر العابر بعد جلسة أو جلستين مع «كارل ماركس»، كما تبرز للغرباء الذين تجمعهم به المصادفة حينا بعد حين، فليس يختص بها أولئك الأخصاء الذين طالت عشرتهم له وخبرتهم بأطواره وأعماله؛ لأنها صورة بينة تنعكس عن صفات متغلغلة متمكنة لا تخفيها المواربة، ولا تحتاج إلى إنعام النظر طويلا لإبراز طواياها.
وصفه «كارل شورز»
8
بعد التقائه في كولون سنة 1848 قال: «إنه قد استفاضت عنه شهرة واسعة بالاطلاع الغزير، ولم أكن على علم بكشوفه ونظرياته، فزادني ذلك شوقا إلى التقاط كلمات الحكمة من فم الرجل الشهير، فخاب أملي على نحو غريب، إذ كانت كلمات «ماركس» ولا شك مشبعة بالمعاني، ولكني لم أر قط في حياتي رجلا بلغ سلوكه من البغضة التي لا تطاق ما بلغ سلوك هذا الرجل، كان لا يعير التفاتة واحدة لفكرة تخالف فكرته أقل مخالفة، وكان يعامل كل من يخالفه معاملة ملؤها التحقير والازدراء، ويجيب على كل قول لا يعجبه إجابة قارضة تسخر من الغباء المطبق الذي يرمي به قائله أو تلوح له بالاتهام وسوء النية، ولا تزال لهجته في النطق بكلمة برجوازية عالقة بذهني إلى هذه الساعة، وهو سريع إلى إلصاق مسبة البرجوازية بكل من يخالفه على أسوأ ما تدل عليه من ضعة العقل والخلق.»
9
وقال «تيشو»
10
عنه مع إعجابه به وتسليمه بقدرته: «لو كان قلبه في عظمة فكره، وكان حبه في قوة حقده، لاقتحمت النار معه على الرغم من تصريحه غير مرة بهبوط منزلتي في نظره.»
لا جرم كان بهذا المسلك خليقا أن يغري بالمناقضة والمشاكسة، وكان يكفي - كما قال «شورز»: إن ينم على وجهة يختارها ليدفع بسامعيه إلى وجهة غيرها.
صفحه نامشخص
وعلى كثرة الذين كتبوا عنه وعن ذكرياتهم معه، لم يكن بينهم أحد يمر بهذه الخليقة دون أن يلحظها، ولو كانت من الخلائق العارضة أو الخلائق التي تظهر وتختفي بين أدوار العمر وطوارئ الأحوال، لما أنكرها منه أبوه في مقتبل عمره، كما أنكرها صديقه وصفيه وزميل حياته وشريك دعوته «فردريك إنجلز»
11
وهو أحرص الناس على سد خلته ومداراة عيوبه. ولكنها خليقة لازمته من مطلع حياته إلى خاتمة أيامه، فأبوه يكتب إليه أيام تلمذته ليقول له مكرها: «إنك - لسوء الحظ - تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وأرى أنك - على ما فيك من خصال حسنة - أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»
و«إنجلز» في سنة 1863 - أي بعد أن جاوز الخامسة والأربعين يكتب إليه قائلا: «من البديه أنك سترى مما أنا فيه من الحزن، وما أنت عليه من جمود الطبع أنني لم أكن أستطيع أن أجيبك قبل هذا التاريخ. إن أصحابي جميعا - ومنهم المخالفون - قد أبدوا لي من العطف والعزاء فوق ما كنت أنتظر، أما أنت فقد لاح لك إنها فرصة لإظهار سموك بالتعالي عن الحزن، وجمود العاطفة، ليكن ما أردت، سلمنا لك ما تريد، فانعم بانتصارك.»
وإنما ثار «إنجلز» هذه الثورة النادرة؛ لأنه كتب إلى «ماركس» ينعي إليه خليلته فلم يتحرك لمصابه، ولم يزد على كلمات أسف وجيزة، تلاها على الأثر طلب المعونة وشرح الأزمات التي يعانيها، وقد كان «إنجلز» ينسى شواغله وهمومه كلما سمع عن وعكة خفيفة يشكوها طفل من أطفال «ماركس» أو تشكوها قرينته السقيمة، فلا يهدأ ولا يتوانى حتى يسعفه بما في وسعه من المعونة والمواساة.
وفي هذه المرة فقط عرف «ماركس» كيف يعتذر من خطأ يلومه عليه لائم من صحبه أو زملائه أو ذويه، فكتب إلى «إنجلز» ينحي على نفسه؛ لأنه أرسل ذلك الخطاب، ويقول إنه أدرك خطأه بعد إلقائه في البريد، وإنه كان من رثاثة الحال في داره بلا طعام، ولا دفء ولا راحة بحيث لا يملك متنفسا غير التهكم وقلة الاكتراث.
وهكذا كان الاعتذار الوحيد الذي ارتضاه «ماركس» أعرق في اللؤم من الخطأ الذي ساقه إليه؛ لأنه اعتذار الشعور بالحاجة إلى الرجل الذي كان يلتمس المعونة منه، ولم يكن اعتذار شعور بالواجب أو الوفاء. •••
والأمر الذي يستوقف النظر طويلا بعد هذه الصور المتفرقة أنها تصدر عن إجماع عام ممن لا يتفقون يوما في وصف إنسان واحد كبير أو صغير، فقد اتفق عليها من يعتقدون مذهب «كارل ماركس» ومن لا يعتقدونه ولا يعرفونه، واتفق عليها من عاشروه سنوات ومن لم يجتمعوا به غير مرة أو مرات، واتفق عليها الغرباء وأقرب الأقرباء من أصدقائه وذويه، ومن كان منهم مظنة الإجحاف لخصومة أو خلاف - كأستاذه «باكونين» - فالشبهة عليه أضعف ما تكون في هذه الأحوال؛ لأنه على رذائله الكثيرة لم يشتهر برذيلة الحقد والافتراء على عمد وروية، بل اشتهر على نقيض ذلك بالمسامحة وحب الإنصاف لأصحابه وخصومه، ولا يضيره بعد ذلك أن يكون مظنة الاشتباه بالإجحاف، لأن ما قاله عن «ماركس» يطابق في جملته رأي أبيه ورأي الخاصة الأقربين من أصدقائه ومريديه.
إلا أن الأقوال التي تتفق على الوصف لا تتفق على التعليل والتحليل؛ ف «ماركس» هكذا باتفاق عارفيه، ولكن لم كان هكذا ولم يكن على صورة أخرى؟
هنا تختلف الآراء والظنون؛ لأن المجال هنا مجال بحث وتقدير وليس مجال رؤية وتقرير، ونحن نعرض هذه التعليلات فلا نجد بينها تعليلا أقرب من تعليل «روهل» إلى الإجماع أو الفهم من والقبول، وقد تقدم أنه يرجع بعيوبه إلى أسباب شتى يلخصها في اعتلال البنية والشعور بوصمة المجتمع وانفراده برعاية أبويه؛ لأنه كان أول الأبناء.
صفحه نامشخص
وهذه تعليلات تنظر إلى الوقائع الصحيحة ولا تستوعبها؛ لأنها لم تلتفت إلى الجانب المهم من الوراثة وعلاماتها الواضحة في أبويه، وليست الوراثة مما يهمل في شأن إنسان من الناس حيث كان وكيف كان، ولكنها في شأن «كارل ماركس» أحق بالالتفات إليها والبحث عن الصلة بينها وبين قواعد مذهبه وغاياته؛ لأنها وثيقة الصلة بتلك القواعد والغايات.
لقد كان «كارل ماركس» ينحدر من أبوين ينتميان - كلاهما - إلى طائفة الربانيين والحاخامات اليهود، وكان أبوه فقيها دينيا، وأمه من سلالة اليهود الهولنديين الذين هاجروا إلى بلاد المجر في القرن التاسع عشر لكثرة من في هذه البلاد من اليهود وأصحاب المزارع والأموال.
جاء في كتاب «الحركات الاجتماعية الاقتصادية» لمؤلفه «هاري ليدلر»:
12 «إن أباه كان من رجال الشريعة الإسرائيليين، وإن جده كان من البرنانيين، وإن أمه تنحدر من أسرة هولندية ربانية هاجرت من هولندا في القرن السابع عشر إلى البلاد المجرية.»
وهذه الأسرة العريقة في الديانة اليهودية قد تحولت - أبا وأما - عن دينها إلى الدين المسيحي بعد ولادة «كارل» بست سنوات، ولم يتحول الأبوان معا عن عقيدة وإيمان صادق بالمسيحية، ولكنهما اتفقا على ترك الدين الذي انحدرا من سلالة فقهائه ورؤسائه تمهيدا لفرص العيش، ثم تمهيدا لفرص المستقبل أمام الابن الذي بلغ السادسة، وأرادا في هذه السن الباكرة أن يحولاه معهما عن ديانة الآباء والأجداد إلى ديانة الدولة والمجتمع الذي يعيشان فيه، وليس أنسب من سن السادسة، لتحويل طفل صغير من دين إلى دين؛ لأنه قد يتأخر عن السن المناسبة لتبديل معتقداته وشعائره، إذا بلغ سن المراهقة على دين الآباء والأجداد.
أيمكن أن تنفصل هذه الحادثة عن مذهب «كارل ماركس» في جوهره ولبابه؟ أيمكن أن تنفصل عن شعوره بالدين وشعوره بالعقيدة الروحية على اختلاف مناحيها؟
لقد أقام «كارل ماركس» مذهبه على المادية الاقتصادية، وكان قوام هذا المذهب أن الديانات والعقائد جميعا إنما هي انعكاس الضرورات الاقتصادية في المجتمع، كما تتمثل في عباداته وعاداته.
وليس في هذا المذهب شيء يناقض الواقع المحسوس الذي شب عليه في طفولته بين أبويه.
ولا تكون «المادية الاقتصادية» هنا فكرة من أفكار البحث والمنطق والدراسة العقلية وكفى، بل تكون في ضميره لاعجة من أقوى اللواعج النفسية التي تتطلب التنفس والتهدئة، وتهمة كامنة في الأعماق تحاول جهدها أن تنتفض من أعماقها وتتخذ لها نزعة من نوازع التسويغ أو نوازع التحدي والمفاخرة، حينما تفتحت لها دخائل الفكر والوجدان.
وكأنه يقول من وراء المادية الاقتصادية متسائلا متحديا: ماذا صنع أبواي؟ أتراهما صنعا شيئا يعاب عليهما أو يعاب على أحد؟ أتراهما على نقص في الأخلاق والضمير؛ لأنهما تحولا عن الدين التماسا للمنفعة الاقتصادية أو المنفعة المادية؟
صفحه نامشخص
كلا، إن الديانات كلها تتحرى المنفعة الاقتصادية وتنبت في منابتها، وإن المنفعة الاقتصادية في كل مجتمع هي ينبوع العقائد فيه، وينبوع كل ظاهرة روحية فيه مما يسمونه بالآداب والأخلاق والفنون، ويحسبونه من ثمرات الذوق أو الخيال أو من وحي السماوات والأرباب، وما صنعه أبواي لا يعاب عليهما ولا ينم عن نقيصة خلقية أو خيانة لعهد الروح والضمير، بل هو مفخرة لهما وآية من آيات صدق النظر والبصيرة لديهما؛ لأنهما قد نفذا إلى أصل الدين في أعمق أعماقه، فلم ينخدعا فيه كما ينخدع المؤمنون الغافلون عن أصل الدين وعن جميع الأصول.
فها هنا دلالة أقوى من دلالة الفكرة التي تتولد من البحث العلمي والأقيسة المنطقية، ها هنا «أولا» خليقة موروثة مع الطباع التي تورث عن كلا الأبوين، وها هنا بعد ذلك حاجة نفسية تلح على الوعي الباطن والوعي الظاهر معا، وتلتمس منهما قوة العزاء أو قوة التحدي والمكابرة، فلا معابة في ترك الدين طلبا للمنفعة المادية أو الاقتصادية، بل هو الظاهرة العامة التي ينبغي أن ترجع إليها جميع الديانات، وهو إلى ذلك مفخرة الأبوين بالنظر الثاقب والحدس القويم.
وليس موقف الأسرة من الدين هو كل ما نلمحه من الخلائق الموروثة وأثرها في تكوين أفكاره أو بواعث تفكيره، فإن اعتلاله كان مسبوقا بعلة مثلها في أبيه الذي مات بها قبل بلوغ الشيخوخة، وقال الأطباء عنها في محضر الوفاة: إنها داء الكباد، ولم تكن أمه أصح من أبيه كما يؤخذ من أخبارها القليلة، وكان له أخ يسمى «إدوارد» أصابه داء الهزال فمات في صباه. •••
هذه نشأة جسدية تضاف إلى نشأته النفسية أو الأخلاقية، فلا تنم على فطرة سوية ولا تهيئ الناشئ للخير والفلاح في حياته الخاصة أو العامة، ويجوز لمن يترجم سيرته أن يقدر جرائرها إذا أعوزته الشواهد والروايات بأسانيدها، غير أن الحوادث المفصلة في هذه السيرة تغني عن التقدير وتزودنا على سعة بالمعلومات الوافية عن إمام الشيوعية من طفولته الباكرة؛ لأن الدعوة إلى المذاهب الثورية ومذاهب الاشتراكية المتطرفة والمعتدلة قد انتشرت بعد عصره بسنوات معدودة، وأدركها أتباعه وتلاميذه فاحتفظوا بآثاره وبالغوا في الاحتفاظ بها، حتى جمعوا من خاصة أخباره ما قل أن يجتمع في سيرة مشهورة من رجال الدول، فضلا عن دعاة المذاهب والبرامج الاجتماعية، وكان من حظ التاريخ الصادق أن أتباعه كانوا - بحكم عقيدتهم - ممن تهون عليهم قيم الأخلاق والأدب، فلم يتحرجوا من المساوئ والعيوب كما يتحرج منها مترجمو العظماء، حين يعرضون لأخبارهم الخاصة وسقطاتهم المريبة.
ومن هذه المعلومات دون غيرها، يتراءى أمام المادية التاريخية في كل صفحة من صفحات سيرته مصدقا لتلك الخلائق التي أجمعت عليها أوصاف عارفيه، فلم يكن في عمل تولاه قط قدوة صالحة أو فردا صالحا لمجتمع من المجتمعات كائنا ما كان في حساب الماديين أو غير الماديين، فلا الناشئ الطالب في سلك الدراسية، ولا الرجل رب الأسرة، ولا الصديق أو الزميل في الدعوة الاجتماعية، ولا الداعية العامل على نشر مذهبه، ولا الإنسان الذي ينتمي إلى ملة أو وطن أو طبقة، كان في «كارل ماركس» قدوة يحمدها الماديون التاريخيون ويتمنون الإكثار منها في مجتمعهم الموعود، أو في بيئة من البيئات على اختلاف المعايير والآداب.
كان على أحسنه عندهم موضع اعتذار وتعليل، ولم يكن في أخلاقه قط موضع إكبار واقتداء.
كان الطالب «كارل ماركس» يهمل دروسه، وينقطع عن معهد الدراسة أسابيع متواصلة، ويبدل منهجا من مناهج التعليم بمنهج غيره، ثم لا ينشط للمنهج الجديد إلا ريثما يبدله، ويتعلق بآخر يهدم به ما بناه بالأمس كما قال أبوه.
وقد كان أبوه - على سنة الآباء أجمعين - يميل إلى حسن الظن، أو يلقي في روعه أنه يحسن الظن به؛ ليستبقي عنده بعض الثقة برأيه، فلا يركب رأسه على هواه إذا داخله اليأس من جانب أبيه، فكان يوحي إليه بالنصيحة من خلال النقد والثناء، ويقول له: إنه يسهر الليالي الطوال في بناء الآراء وهدمها، وينقطع من الجامعة لمتابعة هذه الآراء التي لا تطرد على وتيرة ولا تنتهي إلى طائل، وحقيقة الأمر أنه ينقطع عن الجامعة لغير ذلك السبب في كثير من الأحيان، وأنه كان يسترسل في سهراته مع غواة اللهو والعربدة، ويهجر البلدة كلها - بلدة «بون» مقر الجامعة ليذهب إلى «كولون» في جوارها، ويبتغي فيها من ملاهي السهر ما لم يكن ميسورا له تحت الرقابة الجامعية. وحدث في بعض هذه السهرات أنه سيق إلى دار الشرطة مع جماعة من السكارى لإفراطه في السكر والعربدة. وأنه سيق إلى المبارزة مرة أخرى، وتبين من تقريرات الشرطة أنه استخدم الأسلحة النارية فيها.
13
وقد جرت عادة «ماركس» في كتابته الاقتصادية أن يطلق اسم «الرعاع» على علماء الاقتصاد الذين يقنعون بالظواهر ولا ينفذون إلى بواطن الحركات الاجتماعية، كما تبدو له في دراساته التي يميزها دون غيرها باسم الدراسات العلمية. فإذا استعيرت هذه التسمية للباحثين في أطوار «الشخصيات»، فلعلها تنطبق على أولئك المترجمين الذين كتبوا سيرة «كارل ماركس»، وأرادوا أن يفسروا تقلبه بين الدراسات فأقنعتهم كلمة «القلق» أو «الجموح»، ولم يشعروا بالحاجة إلى تفسير وراء هذا التفسير الذي يصح فيه أنه من قبيل تفسير الماء بعد الجهد بالماء، لأن القلق هو التقلب، والتقلب هو القلق، بغير فارق كبير في مصطلحات القاموس أو مصطلحات العلوم النفسية، وشبيه بهؤلاء المفسرين نظراؤهم الذين يفسرون هذا القلق باختلال البنية، ولا يذهبون وراء هذا الاختلال إلى دخائل النفس لفهم بواعثها وغاياتها، وما كان اختلال البنية بصالح لتفسير عمل من الأعمال، أو توضيح ترجمة من التراجم، إلا حين ينتقل من أسماء الأمراض والأسقام إلى أسماء الأخلاق والعادات.
صفحه نامشخص