شهداء التعصب
شهداء التعصب: رواية تاريخية وقعت أكثر حوادثها في فرنسا على عهد فرنسوا الثاني ملك فرنسا المتوفى سنة ١٥٦٠م
ژانرها
ولقد فرق الطلق الناري المهاجمين، واعتصم ترولوس بالشجرة بعيدا عن سيوف الرجال، وطلب من جاليو غدارته ليحشوها وهو في موقفه العالي، وسمعه الدوق فقال: لله در هذين البطلين!
وكان جاليو قد انتهز فرصة من اضطراب المهاجمين فاستند إلى الشجرة، وأدرك ترولوس مراده فأمسكه من كتفيه فرفعه إليه فكانا كلاهما بين الأوراق.
فزعق الدوق وأخوه زعقات المجانين من شدة الحنق؛ لأنهما وهما أميران عظيمان مصحوبان بعدد من الجند، قد هاجما رجلين على حين غرة ولم يفلحا، ولم يفلح الذين حملوا البنادق؛ لأن الرجلين كانا محتجبين بورق الشجرة والرصاص يتطاير منها فيطرحهم قتلى. أما سائر الرجال فكانوا يقاتلون بسيوفهم ولم يكونوا يحملون غيرها، وسيف جاليو أطول وأقتل؛ لأنه يصيب به المقاتل من مكان مرتفع. فقال الدوق: لم يبق سبيل لنجاتهما إلا بالخندق والجدار فهما أسيران، فليذهب أحد منكم وليرجع بالرجال، فقال ترولوس لجاليو: والآن كيف نصنع؟ قال: هات الغدارتين، ووثب إلى الضفة الأخرى.
فوثب ترولوس إلى لسان ضيق من الأرض عند أسفل الجدار، وكان ذلك عندما عقدت مرسلين السلم بالنافذة، ولم يلتفت المهاجمون إلى ما جرى أمامهم، وقد بهتوا من جرأة ترولوس، فلم يدر في خلدهم أن الوثوب من الشجرة إلى الأرض أمر ممكن، وإذا بجاليو قد نزل، وصار إلى جانب صديقه شاهرا غدارتيه، وقال: إذا تقدم إلي أحد أيها الدوق فهو هالك لا محالة، ولئن حاولتم هجوما علينا تلقيناكم بالسيف، ثم خفض صوته، وقال: ما هذا؟
وقد أحس بشيء على رأسه، فقال: هذا سلم، فاصعد يا ترولوس. قال: من أين لنا هذا السلم؟ قال: اصعد ولا تسأل، وكان ترولوس قد صعد حتى بلغ الطبقة الأولى بأسرع من رد الطرف، وسدد إليه أحد الرماة رصاصة فلم يمهله جاليو، بل أطلق على الرجل غدراته فرماه صريعا. فقال الدوق: يا لك من غلام زنيم فلا بد من قتلك عند صعودك؛ إذ تعجز عن استخدام سلاحك وأنت صاعد، والظاهر أن ترولوس أدرك ما يجول في ذهن الدوق فنزل سريعا وطلب الغدارتين من جاليو، وقال له: سوف أدافع عنك عند صعودك. فصاح الدوق: أين الرجال؟ إن هذين الشقيين يوشكان أن يتخلصا منا. ولكن في أي مكان عقد هذا السلم؟ ما أراه من غرفة الملكة، فمن يتجرأ على حماية الشقيين؟
وكان ترولوس في أثناء ذلك قد وصل إلى النافذة، ونزل منها إلى الرواق في داخل القصر فلم يكلم الملكة ولا مرسلين، وكانتا أمامه، بل أطل من النافذة، ورفع صوته وقال: تعال يا صديقي ولا تخف، فعندي غدارتان كافيتان لقتل من يسدد المرمى إليك.
وصعد جاليو عاجلا، ثم سحب السلم، وفيما كان الصديقان يشكران الملكة وهي تفكر في إتمام نجاتهما انفتحت حجرة المحامي أفنيل زوج مرسلين، ولم ير في بدء الأمر إلا زوجته، فقال: ماذا أتى بك إلى هنا؟ قالت: لقد راعني دوي البنادق. قال: من هذان الرجلان، ومن هذه المرأة؟
ثم وقف مرتاعا من جرأته، وكانت الغيرة قد حملته عليها، فقال ما قال، لكنه لما عرف الملكة اعترته هزة، فدنت منه، وقالت له: اعلم أيها المحامي أنك لم تر، ولم تسمع شيئا في هذه الليلة، وأنك تجهل وجود رجلين ها هنا معي، وإذا سئلت فقل إنك لم تفارق مخدعك. تلك إرادتي فاذهب. قال: أقسم لك يا ذات الجلالة على أنني سأنسى كل هذا! أجابت: لست في حاجة إلى قسمك، فعد مع زوجتك، وهي صديقتنا وسوف نذكرها دائما، وإذ ذاك ارتفعت الأصوات وانفتحت الأبواب، فعلمت الملكة أن الدوق آت مع رجاله يبحث عن الشابين، فقالت لهما: اتبعاني إلى غرفتي. قالا: شكرا لك.
ومرت بسلم سري فوصلت إلى غرفتها، وخبأت ترولوس وجاليو في مخدع لا منفذ له إلا من قرب سريرها، وقالت لهما: البثا ها هنا، ومهما تسمعا لا تأتيا بأدنى حركة.
وظل الدوق في بحثه، وأقام أعوانه في الدهاليز والمماشي . ثم صعد إلى النافذة التي كان فيها سلم الحبال معلقا، وكانت لا تزال مفتوحة، وبعد هنيهة امتلأ الرواق بالأشراف والسيدات، وفتح المحامي أفنيل وزوجته باب حجرتهما، وتقدما يمسحان أعينهما. فقال الدوق للمحامي: إن نافذة حجرتك قريبة إلى هذه النافذة، ألم تسمع شيئا؟ قال: متى؟ أجاب: منذ هنيهة. قال: كأني سمعت ضجة عند أسفل القصر، فظننت أن بعض الجنود سكروا. قال: لست أتكلم عما جرى في أسفل القصر، ولكن عما جرى هنا، قال: هنا؟ أين؟ فقال الدوق: في هذا الرواق؟ أجاب: أتمزح يا مولاي؟ قال: لقد دخل القصر رجلان من هذه النافذة. قال: لم أر، ولم أسمع. فهدر الدوق ودمدم، وقال: تالله لأفتشن القصر حتى أجد الشقيين.
صفحه نامشخص