كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وكان من أهل بدر والحديبية. وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كذبت، إنه قد شهد بدرا والحديبية"(1). وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعلي والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب". فلما أتيا بالكتاب، قال: "ما هذا يا حاطب"؟ فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر، ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، كان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي. فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: ”إنه شهد بدرا، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم“. وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة }(2) [الممتحنة: 1]، وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم، ومعروفة عند علماء التفسير، وعلماء الحديث، وعلماء المغازي والسير والتواريخ، وعلماء الفقه، وغير هؤلاء. وكان علي رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم، ولو جرى منهم ما جرى.
فإن عثمان وعليا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه، وكان ذنبه في مكاتبة المشركين، وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء، ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، وكذب من قال: إنه يدخل النار، لأنه شهد بدرا والحديبية، وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر. ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فسماه منافقا، واستحل قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما، ولا في كونه من أهل الجنة.
صفحه ۳۹