Shubuhat Hawl al-Sunnah
شبهات حول السنة
ناشر
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٥هـ
محل انتشار
المملكة العربية السعودية
ژانرها
[مقدمة]
شبهات حول السنة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره علي الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإِحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله تعالى قد منَّ على عباده بإرسال محمد ﵊، وإنزال القرآن الكريم عليه، وإيتائه السنّة التي هي صنو القرآن الكريم من حيث حجيتها ومنزلتها في التشريع ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: ١٦٤] فالكتاب هو القرآن العظيم، والحكمة هي السنَّة النبوية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم.
1 / 3
وقد فرض الله على الناس الأخذ بما جاء به محمد ﵊ من السنَّة، وبيَّن أنها قسم من الوحي وجزء منه، فقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] وقال جل وعلا: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤]
فالسنَّة النبوية هي قسيمة القرآن تندرج معه في الوحي الإلهي، وهي تبينه وتوضحه، والأخذ بها سبب للاهتداء كما يدل لهذا قول الله ﷿ ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤] فمن كان نصيبه من طاعة النبي ﵊ والأخذ بسنَّته والاستمساك بها أكمل كان حظه من الاهتداء أتمَّ، وعكسه بعكسه، فإن الإنسان يفوته من الاهتداء بقدر ما فاته من السنَّة علمًا وعملا.
ومن تمام نصح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
1 / 4
لأمته وحرصه عليهم ومحبته الخير لهم أوصاهم بسنّته، وحثهم عليها، وأمرهم بالأخذ بها، كما في قوله ﵊ لأصحابه ﷺ: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تَأمَّرَ عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثَات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» . . [رواه الإمام أحمد في المسند (٤ / ١٢٦)، والترمذي في كتاب العلم (٢٦٠٠)، والدارمي في المقدمة (٩٥)] .
ومن دلائل نبوته ﵊ إخباره بما يكون من الدعوة إلى ترك سنَّته والاكتفاء بالقرآن، وتحذيره ممن يدعو إلى ذلك، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» [رواه أبو داود في كتاب السنَّة (٣٩٨٨)] .
1 / 5
وقد وقع مصداق ما أخبر به ﵊ فوجد قديما وحديثًا من يدعو إلى الاقتصار على القرآن، ويقلل من شأن السنّة وأهميتها، ويطعن في نقلها وحملتها وعلمائها وأهلها.
ومن حفظ الله لدينه وفضله على عباده أن هيأ لسنَّة نبيه ﷺ من يحفظها وينقلها ويعلّمها وينافح عنها وينفي عنها الدخيل، ويدحض شبهات المبطلين ويفندها.
وهذا الكتاب إسهام كريم من العلامة الكبير الشيخ / عبد الرزّاق عفيفي في نصرة السنَّة النبويَّة، كتبه قديما في تفنيد شبهات أعدائها وخصومها، فرحمه الله رحمة واسعة ورفع درجاته وأعلى منزلته.
ويأتي نشر هذا الكتاب قيامًا من الوزارة ببعض الواجب في نصرة السنَّة والذَّب عنها والذود عن حياضها، وإسهامًا منها في دحض ما يروّجه المبطلون وتفنيد ما يزعمونه، ونصحًا للمسلمين، وامتدادًا لجهود المملكة
1 / 6
العربية السعودية في نصرة الإسلام والعناية بمصدريه العظيمين القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة اللذين منهما تستمد المملكة دستورها ومنهاجها.
والله المسؤول أن ينفع بهذا الكتاب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى اَله وصحبه وسلَّم.
وكالة المطبوعات والبحث العلمي
1 / 7
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ. . وبعد:
فلا بد من الإقرار والتصديق بوقوع الرسالة، وهي صلة بين الله جل شأنه وبين أنبيائه، ووجوب تكليف العباد بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذه الأصول الأولى لا بد من إثباتها؛ حتى يكون الاحتجاجٍ بما ورد في السنَّة على إثبات أحكام شرعية، احتجاجا مبنيًّا على أساس وحتى لا يحتاج الناس بعد ذلك إلا إلى دفع شُبه قد ترد.
لا بد أن يكون الأصل ثابتًا * من جهة ما أجمع عليه: من وجود موح يوحي بشرع ومن وجود رسل يُوصلون إلى العباد ليهْدوهم سواء السبيل. * ومن جهة الوجوب: وجوب ما جاءت به الرسل
1 / 9
عقيدة وعملا على الأمة التي أرسلت إليها الرسل.
فإذا أراد الإنسان أن يستوفي الموضوع فلا بد له من أن يبدأه من أوله، ومن الأساس.
أما هذه الرسالة، فستكون في موضوع شبه، أو بعض الشّبه التي وردت على الاحتجاج بالسنَّة أو العمل بها، أو اعتقاد ما جاءت به.
* * *
1 / 10
[اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة]
اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة إن المسلم الداعية، أو المناظر الذي يثبت حجيَّة السنَّة، والذي يدفع الشبه عنها يختلف موقفه باختلاف من يناظره:
فتارة يكون منكرًا للسنَّة من أصلها؛ أي جميع ما جاء عن الرسول ﵊ من الأحاديث قولا أو عملا أو خُلُقًا، ينكره ويكتفي بما جاء في القرآن الكريم، فموقفه الواجب مع هؤلاء أن يثبت لهم حاجة المسلمين في فهمهِم للقرآن وعملهم بالقرآن، حاجتهم في ذلك إلى السنّة التي جاء بها النبي ﷺ قولا وعملا.
* * *
1 / 11
[شبهات حول السنة]
[الشبهة الأولى الاقتصار على القرآن وإنكار السنة وجوابها]
الشبهة الأولى
الاقتصار على القرآن وإنكار السنة فإذا لم يُحتج بالقرآن؛ وقال: إن الله تعالى أغنانا بالقرآن لقوله فيه: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩] فالقرآن بيّنٌ، واضحٌ، ومبيِّنٌ لكل شيء، فلا يحتاج معه إلى سُنة، فلماذا نتكلف البحث فيها والركون إليها أو الاحتجاج بها؟ لماذا نتكلف هذا مع أن الله تكفل لنا ببيان كل ما نحتاج إليه في محكم كتابه لقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [النحل: ٨٩] وهو القرآن ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩] فلا حاجة إلى أن نكلف أنفسنا عناء البحث في سنَّة رسول الله ﷺ لنعمل بما فيها وقد أغنانا (١) بالقرآن عنها، ويقول سبحانه في آية
_________
(١) الأولَى أن يقال: " وقد أغنانا الله بالقرآن عنها ".
1 / 12
أخرى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] ويريدون بالكتاب القرآن، فيكون المعنى ما فرطنا في القرآن من شيء، ففي القرآن كل شيء فلا حاجة إلى السنَّة، وهذا إنكار للسنَّة بجملتها أو إنكار للحاجة إليها وإلى الاحتجاج بها في الجملة، اكتفاءً بما جاء في القرآن بهاتين الآيتين.
* الجواب على هذه الشبهة: وقد أجاب العلماء عن الاستدلال بهاتين الآيتين بأجوبة منها: أنه أراد بقوله تعالى: ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ [الأنعام: ٣٨] في قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] المراد به اللوح المحفوظ.
والسورة مكية، ولم يكن نزل من القرآن إلا قليل، سورة البقرة مدنية، براءة مدنية، النساء مدنية، آل عمران مدنية، كثير من آيات الأحكام والفروع كثير منها مدني،
1 / 13
وما يتصل بالصلاة إنما وضح وتبين وتكامل في المدينة، وأحكام المعاملات إنما نزلت في القرآن بالمدينة ونزلت أصولها في القرآن بعد الهجرة، وأحكام الجنايات من قصاص وديات نزلت في المدينة.
والسورة، سورة الأنعام كلها مكية على الصحيح، قد يكون منها آيات تشبه الآيات المدنية، كآيات الذبح وذكر اسم الله على الذبائح، قد يكون مثل هذا نزل بالمدينة، لكن الغالب عليها أنها مكية، فكيف يكون القرآن؟ كيف يكون في الكتاب الذي هو القرآن بيان كل شيء في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية؟، مع أن تلكم الأحكام إنما نزلت أصولها في المدينة لا في مكة.
ثم عدد الصلوات وتحديد أوقاتها وعدد ركعاتها وسائر كيفياتها؛ لم تُعرف من القرآن إنما عُرفت من السنَّة.
أحكام الزكاة من جهة النصاب ومن جهة المستحقين
1 / 14
لم تكن عُرفت في مكة، بل فريضة الزكاة لم تكن شُرعت في مكة إنما الذي شُرع الصدقات العامة، وفرض الزكاة وبدايتها إنما كان في المدينة، فبيان المستحقين للزكاة إنما نزل في المدينة في سورة التوبة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [التوبة: ٦٠] إلى آخر الآية التي فيها الأصناف الثمانية، ثم النصاب نصاب الزكاة ليس محددًا في القرآن، وشرطها وهو حول الحول ليس محددًا في القرآن ولا مبينًا فيه. فالواقع يدل على أن القرآن اشتمل على الأصول العامة، وأنه لم يكن فيه كل شيء.
تفسير الكتاب في قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] فتفسير الكتاب بالقرآن في آية: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] تفسير غير صحيح، إنما المراد به اللوح المحفوظ الذي هدى الله تعالى القلم أن يكتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.
1 / 15
أما الآية الأخرى وهي: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩] فيقال فيها: المراد بالكتاب القرآن، ولكن سورة النحل التي نزلت فيها هذه الآية أو هذه الجملة سورة مكية، ولم يكن نزل التشريع كله في مكة إنما نزلت أصول التوحيد وما يتصل بمعجزات الرسول ﷺ في مكة، وأما الفروع فقد نزلت في المدينة.
فكيف يقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩] بالكتاب في هذه الآية من سورة النحل القرآن، لكن ليس المراد ببيانه لكل شيء بيانه لجميع أحكام الفروع، إنما هو مثل الآية التي قال الله فيها: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥]؛ إخبارًا عن الريح التي أرسلها الله جل شأنه على عاد قوم هود، أرسل عليهم ريحًا وقال: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥] وهي إنما دمرت قوم هود:
1 / 16
دمرت عادًا ودمرت ديارهم، فالأمارات الحسية، أو الأدلة الحسية وواقع الهالكين الذين هلكوا وتحدث الله عنهم في القرآن يدل على أن المراد بالآية الخصوص لا العموم، كذلك قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] إلى آخر الآية هي مما أريد به الخصوص، وإلا ففي أي آية من الآيات بيان عدد الصلوات، وبيان تفاصيل الزكوات، أو بيان الحج إلى بيت الله الحرام بأصله وتفاصيله؟
لم يكن شُرعَ في هذا الوقت إنما شُرعَ في المدينة في السنة التاسعة أو السنة العاشرة على الخلاف بين العلماء، وما كان من حج قبل ذلك فهو على الطريقة الموروثة عن إبراهيم الخليل ﵊ لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل، وأمره الله أن يؤذن في الناس كان الحج مشروعًا، وممتدا شرعه من أيام رسالة إبراهيم ﵊ إلى أيام العرب في زمن النبي ﷺ وبعد زمنه،
1 / 17
أما فرضُه في شريعة محمد ﷺ فقد نزل ضمن آيات سورة آل عمران، وهذا لم ينزل في مكة، إنما نزل في السنة التاسعة من الهجرة أو في السنة العاشرة التي حج فيها رسول الله ﷺ، فكيف يقال ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] وهو لم يتبين فيه أصل فرضية الحج ولا تفاصيل الحج ولا تفاصيل الصيام.
والصيام أيضًا فُرض في المدينة بعد الهجرة بسنة، أين الصيام وتفاصيله؟، والجهاد بالسلاح وتفاصيله؟، والبيوع وتفاصيلها؟، والربا ما نزل إلا في المدينة.
فالآية إما أن يقال فيها: إنها من العام الذي أريد به الخصوص، وإما أن يقال: تبيانًا لكل شيء شرعه وفرضه على المسلمين وهم في مكة؛ لأن السورة مكية، ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] مما أوجبه عليهم وشرعه لهم لا أنها بيان لكل حكم من أحكام الإسلام.
فهؤلاء الذين أنكروا السنَّة جُملة أو قالوا لا حاجة
1 / 18
إليها جملة بتمامها اكتفاءً بالقرآن واستدلالا بهاتين الآيتين، قد أخطأوا الطريق ولم يعرفوا تاريخ التنزيل، ولم يعرفوا واقع التشريع، وأن بيان ما في القرآن من العبادات والمعاملات واقع في السنّة، ثم أين تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها؟ أين تحريم زواج الإنسان بامرأة أبيه.
إنما كان هذا كله في المدينة، تفاصيل الأحوال الشخصية من مواريث، وزيجات، ووصايا، ونكاح، وطلاق، تفاصيل هذا كله إنما كان بالمدينة، في الآيات التي نزلت بالمدينة، وبيَّنها الرسول ﷺ في سنته.
فواقع التشريع، وعمل المسلمين جميعًا: برهانٌ واضحٌ يدل دلالة ضرورية على أن السنَّة جاءت بيانًا للقرآن، بيَّنت في مكة ما يحتاجون إليه، بقدر ما نزل من أحكام أصول التشريع، وبيَّنت في المدينة ما طرأت الحاجة إليه من بيوع، ومعاملات، وجنايات، وحدود.
1 / 19
كل هذا ما نزلت تفصيلات آياته إلا في المدينة، ولم يبيِّن الرسول تفصيله قولا وعملا إلا في المدينة.
فهذا الاستدلال بالآيتين استدلال مردود، ولا نقول: الآيتان مردودتان، هذا هو التعبير الدقيق، ما يقال: رد على الدليل بكذا، إنما يقال رد على استدلالهم بالآيتين بكذا.
قلت ابتداءً: إن موقف الداعية من المدعوين يختلف باختلاف حالهم، فمن أنكر الاحتجاج بالسنَّة جملة اكتفاءً بكتاب الله- احتج بالآيتين والرد عليهم كما سبق ذكره.
1 / 20
[الشبهة الثانية رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل والجواب عنها]
الشبهة الثانية
رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل أو لمعارضتها المستقر في بعض الأذهان بعض الناس من المسلمين يردُّ بعض أحاديث: إما لمعارضتها لفكره فيما يزعم، أو معارضتها لما يرى أن الطب جاء به، وأن الطب قرَّر قرارًا صحيحًا في أمور لا يليقُ أن يأتي على خلافها حديث عن الرسول ﷺ.
فأمثال هؤلاء يردون أحاديث: إما لمعارضتها لفكرهم وعقولهم، وإما لمعارضتها لقواعد صحيّة.
مثَلاَ: فحديث الذباب والأمر بغمسه إذا سقط في الطعام أو في الشراب:
أولا:
يرده جماعة ممن اقتنعوا بالطب، وبالنظريات الطبية، وقدسوا النظريات الطبية، ووثقوا بعقول الأطباء وبتجارب الأطباء، أعظم وأقوى من ثقتهم بتشريع الله
1 / 21
وبما صح عن رسول الله ﷺ، حسنوا نظرهم بالنظريات الطبية أكثر مما حسنوه بما صح عن رسول الله ﷺ.
* وفي هذا طعن في أحد أمرين: - إما طعن في المشرعَ.
- أو في المبلَغ وهو الرسول ﷺ، أو خفض لوظيفته ومهمته.
* يقولون: إن وظيفة التشريع صيام، وصلاة وكذا. . . وليس له دراية بالطب، وما الذي يدخله في الطب؟ فهو له دائرة محدودة يدور فيها هي دائرة التشريع من صلاة، وصيام، وبيع، وشراء، وأمثال ذلك، فما الذي يدخله في هذا؟ . . . هذا ليس من اختصاصه، فالعمل فيه إنما يكون على النظريات الطبية لا على ما جاء عن الرسول ﷺ لأن الفن ليس فنًّا له ولا هو من اختصاصه.
ثانيًا: وإما أن يكون ردهم لهذا الحديث من جهة أخرى، هي طعنهم في الرواة الذين رووا هذا الحديث.
1 / 22
* الجواب على هذه الشبهة: أما من الجهة الأولى: فالرسول ﷺ بيَّن لهم العلَّة؛ فقال: «إن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء» .
وتعليله هذا- وهو أميٌّ لم يدخل مدارس طب، ولم يتفنن بتجارب قام بها- دليلٌ على أنه إنما تكلم بهذا عن طريق الوحي من الله جل شأنه.
والله سبحانه عليم بخواص مخلوقاته؛ فهو عليم بجناح الذباب، وما فيه من داء وما فيه من دواء، وأن هذا يكون علاجًا لهذا، يقول الله ﷿: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤]
ومعروف في الذباب، أنه إذا هبط من أعلى إلى أسفل في كل مرة أنه يهبط بميل، حتى الطائرات؛ ما تنزل الطائرة رأسية؛ لا بد أن تنزل مائلة إلا إن كانت طائرات مروحية (هليوكبتر)، إنما الطائرات العادية المعروفة تنزل مائلة؛ ثم إذا أرادت أن تنزل من الجانب الآخر تميل. . وهكذا، هذا
1 / 23