وقول إن كل حال مضادة لحال البدن فإنها يحس بها عند الاستحالة وعند الانتقال إليها، ولا يحس بها عند حصولها واستقرارها، وذلك لأن الإحساس انفعال ما أو مقارن لانفعال ما والانفعال إنما يكون عند زوال شىء وحصول شىء، وأما المستقر فلا انفعال به، وذلك فى الأمزجة الموافقة والرديئة معا، فإن الأمزجة الرديئة إذا استقرت وأبطلت الأمزجة الأصلية حتى صارت هذه الرديئة كأنها أصلية لم يحس بها، ولذلك، لا يحس بحرارة الدق كانت أقوى من حرارة الغب، وأما إن كانت الأصلية موجودة بعد وهذه الطارئة مضادة لها أحس بها، ويسمى هذا سوء المزاج المختلف وهذا المستقر يسمى سوء المزاج المتفق، والألم والراحة من الألم أيضا من المحسوسات اللمسية، ويفارق اللمس فى هذا المعنى سائر الحواس، وذلك لأن الحواس الأخرى منها ما لا لذة له فى محسوسه ولا ألم، ومنها ما يلتذ ويألم بتوسط أحد المحسوسات، فأما التى لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان ولا يألم بل النفس تألم من ذلك وتلتذ من داخل، وكذلك الحال فى الأذن، فإن تألمت لأذن من صوت شديد والعين من لون مفرط كالضوء فليست تألم من حيث تسمع أو تبصر بل من حيث تلمس لأنه يحدث فيها ألم لمسى وكذلك يحدث فيها بزوال ذلك لذة لمسية وأما الشم والذوق فيألمان ويلتذان إذا تكيفا بكيفية منافرة أو ملائمة، وأما اللمس فإنه قد يألم بالكيفية الملموسة ويلتذ بها، وقد يألم ويلتذ بغير توسط كيفية هى المحسوس الأول بل بتفرق الاتصال والتيامه، ومن الخواص التى للمس أن الآلة الطبيعية التى يحس بها وهى لحم عصبى أو لحم وعصب تحس بالمماسة وإن لم يكن بتوسط البتة فإنه لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات وإذا استحال أحس، ولا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها، وليس يجب أن يظن أن الحساس هو العصب فقط فإن العصب بالحقيقة مؤد للحس اللمسى إلى عضو غيره وهو اللحم، ولو كان الحساس نفس العصب فقط لكن الحساس فى جلد الإنسان ولحمه شيئا منتشرا كالليف وكان حسه ليس لجميع أجزاءه بل أجزاء ليفية فيه، بل العصب الذى يحس اللمس مؤد وقابل معا، والعصبة المجوفة مؤدية للبصر ولكنها غير قابلة إنما القابل ما إليه تؤدى وهو البردية أو ما هو مسئول عليها وهو الروح، فبين إذا أن من طباع اللحم أن يقبل الحس وإن كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر ومن قوة عضو آخر يتوسط بينهما العصب، وأما إن كان المبدأ موجودا فيه فهو حساس بنفسه وإن كان لحما وذلك كالقلب وإن انتشر فى جوهر القلب ليف عصبى فلا يبعد أن يكون ليلتقط عنه الحس ويؤديه إلى أصل واحد يتأدى عنه إلى الدماغ وعن الدماغ إلى أعضاء أخرى كما سنوضح بعد كالحال فى الكبد من جهة انبثاث عروق ليفية فيه ليقبل عنه ويؤدى إلى غيره، ويجوز أن يكون انبثاث الليف فيه ليقوى قوامه ويشتد لحمه وسنشرح هذه الأحوال فى موضع آخر نستقبله، ومن خواص اللمس أن جميع الجلد الذى يطيف بالبدن حساس باللمس، ولم يفرد له جزء منه وذلك لأن هذا الحس لما كان طليعة تراعى الواردات على البدن التى تعظم مفسدتها إن تمكنت من أى عضو وردت عليه وجب أن يجعل جميع البدن حساسا باللمس، ولأن الحواس الأخرى قد تتأدى إليها الأشياء من غير مماسة ومن بعيد فيكفى أن تكون آلتها عضوا واحدا إذا ورد عليه المحسوس الذى يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته وتنحت بالبدن عن جهته فلو كانت الآلة اللامسة بعض الأعضاء لما شعرت النفس إلا بما يماسها وحدها من المفسدات، ويشبه أن تكون قوى اللمس قوى كثيرة كل واحدة منها تختص بمضادة، فيكون ما يدرك به المضادة التى بين الثقيل والخفيف غير الذى ما يدرك به المضادة التى بين الحار والبارد فإن هذه أفعال أولية للحس يجب أن يكون لكل جنس منها قوة خاصة إلا أن هذه القوى لما انتشرت فى جميع الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة كما لو كان اللمس والذوق منتشرين فى البدن كله انتشارهما فى اللسان لظن مبدأ هما قوة واحدة، فلما تميزا فى غير السان عرف اختلافهما، وليس يجب أن يقال ضرورة أن يكون لكل واحدة من هذه القوى آلة تخصها بل يجوز أن تكون آلة واحدة مشتركة لها، ويجوز أن يكون هناك انقسام فى الآلات غير محسوس، وقد اتفق فى اللمس أن كانت الآلة الطبيعية بعينها هى الواسطة، ولما كان كل واسطة يجب أن يكون عادما فى ذاته لكيفية ما يوديه حتى إذا قبلها وأداها أدى شيئا جديدا فيقع الانفعال عنه ليقع الإحساس به والانفعال لا يقع إلا عن جديد كان كذلك أيضا آلة اللمس، لكن المتوسط الذى ليس هو مثلا بحار ولا بارد يكون على وجهين أحدهما على أنه لا حظ له من هاتين الكيفيتين أصلا، والثانى ما له حظ منهما ولكن صار فيه إلى الاعتدال فليس بحار ولا بارد بل معتدل متوسط، ثم لم يمكن أن تكون آلة اللمس خالية أصلا عن هذه الكيفيات لأنها مركبة منها، فوجب أن يكون خلوها عن هذه الأطراف بسبب المزاج والاعتدال لتحس ما يخرج عن القدر الذى لها، وما كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى الاعتدال كان ألطف إحساسا، ولما كان الإنسان أقرب الحيوانات كلها من الاعتدال كان ألطف لمسا، ولما كان اللمس أول الحواس وكان الحيوان الأرضى لا يجوز أن يفارقه وكان لا يكون إلا بتركيب معتدل ليحكم به بين الأضداد فبين من هذا أنه ليس للبسائط وما يقرب منها حس البتة ولا حياة إلا النمو لبعض ما يقرب من البسائط، فليكن هذا مبلغ ما نقوله فى اللمس،
صفحه ۷۴