وقال قوم من الأوانل إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلا وسائط البتة ولا آلات، أما الوسائط فمثل الهواء مثلا للإبصار، وأما الآلات فمثل العين للإبصار، وقد بعدوا عن الحق، فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات لكانت هذه الآلات معطلة فى الخلقة لا ينتفع بها، وأيضا فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع فيستحيل أن يكون بعض الأجسام قريبا منها ومتجها إليها وبعضها بعيدا عنها ومحتجبا منها فلا يحس، وبالجملة يجب أن لا يكون اختلاف فى أوضاع الأجسام منها وحجب وإظهار، فإن هذه الأحوال تكون للأجسام عند الأجسام، فيجب أن تكون النفس إما مدركة لجميع المحسوسات وإما غير مدركة وأن لا تكون غيبة المحسوس تزيله عن الإدراك لأن هذه الغيبة غيبة عند شىء لا محالة هى خلاف الحضرة منه، فيكون عند ذلك الشىء غيبة مرة وحضور مرة، وذلك مكانى وضعى، فيجب أن تكون النفس جسما، وليس ذلك بمذهب هؤلاء، وسنبين لك بعد أن الصور المدركة التى لا يتم نزعها عن المادة وعلائق المادة يستحيل أن تستثبت بغير آلة جسدانية، ولو لم تحتج النفس فى إدراك الأشياء إلى المتوسطات لوجب أن لا يحتاج البصر إلى الضوء وإلى توسط الشاف ولكان تقريب المبصر من العين لا يمنع الإبصار ولكان سد الأذن لا يمنع الصوت ولكانت الآفات العارضة لهذه الآلات لا تمنع الإحساس، ومن الناس من جعل المتوسط عائقا، وقال إنه لما كان المتوسط كلما كان أرق كان أدل فلو لم يكن بل كان خلاء صرف لتمت الدلالة ولأبصر الشىء أكثر مما يبصر حتى كان يمكن أن تبصر نملة فى السماء، وهذا كلام باطل، فليس إذا أوجب رقته زيادة أن يكون عدمه يزيد أيضا فى ذلك، فإن الرقة ليس هو طريقا إلى عدم الجسم، وأما الخلاء فهو عدم الجسم عندهم، بل لو كان الخلاء موجودا لما كان بين المحسوس والحاس المتباينين موصل البتة، ولم يكن فعل ولا انفعال، ومن الناس من ظن شيئا آخر وهو أن الحاس المشترك أو النفس متعلق بالروح وهو جسم لطيف سنشرح حاله بعد وآلة الإدراك وأنه وحده يجوز أن يمتد إلى المحسوسات فيلاقيها أو يوازيها أو يصير منها بوضع ذلك الوضع يوجب الإدراك، وهذا المذهب أيضا فاسد، فإن الروح لا يضبط جوهره إلا فى هذه الوقايات التى تكنفه وأنه إذا خالطه شىء من خارج أفسد جوهره مزاجا وتركيبا، ثم ليس له حركة انتقال خارجا وداخلا، ولو كان له هذا لجاز أن يفارق الإنسان ويعود إليه، فيكون للإنسان أن يموت وأن يحيى باختياره فى ساعته، ولو كانت الروح بهذه الصفة لما احتيج إلى الآلات البدنية، فالحق أن الحواس محتاجة إلى الآلات الجسدانية وبعضها إلى وسائط، فإن الإحساس انفعال ما لأنه قبول منها لصورة المحسوس واستحالة إلى مشاكلة المحسوس بالفعل، فيكون الحاس بالفعل مثل المحسوس بالفعل والحاس بالقوة مثل المحسوس بالقوة، والمحسوس بالحقيقة القريب هو ما يتصور به الحاس من صورة المحسوس، فيكون الحاس من جهة ما يحس ذاته لا الجسم المحسوس لأنه المتصور بالصورة التى هى المحسوسة القريبة منها، وأما الخارج فهو المتصور بالصورة التى هى المحسوسة البعيدة، فهى تحس ذاتها لا الثلج وذاتها لا القار إذا عنينا أقرب الإحساس الذى لا واسطة فيه، وانفعال الحاس من المحسوس ليس على سبيل الحركة إذ ليس هناك تغير من ضد إلى ضد بل هو استكمال أعنى أن يكون الكمال الذى كان بالقوة قد صار بالفعل من غير أن بطل فعل إلى القوة، وإذ قد تكلمنا على الإدراك الذى هو أعم من الحس ثم تكلمنا فى كيفية إحساس الحس مطلقا فنقول إن كل حاسة فإنها تدرك محسوسها وتدرك عدم محسوسها، أما محسوسها فبالذات وأما عدم محسوسها كالظلمة للعين والسكوت سسع وغير ذلك فأنها تكون بالقوة لا بالفعل، وأما إدرك أنها أدركت فليس للحاسة فإن الإدراك ليس هو لونا فيبصر أو صوتا فيسمع ولكن إنما يدرك ذلك بالفعل العقلى أو الوهم على ما يتضح من حالهما بعد،
فصل 3 (فى الحاسة اللمسية)
صفحه ۶۷