فلنبدأ بتعريف حال القوى المذكورة قوة قوة، ولنعرفها من جهة أفعالها، وأول ذلك أفعال القوى النباتية، وأولها حال التغذية، فنقول قد علمت فيها سلف نسبة الغذاء إلى المتغذى وحد كل واحد منها وخاصيته، فنقول الآن إن الغذاء ليس إنما يستحيل دائما إلى طبيعة المتغذى دفعة، بل أولا يستحيل استحالة ما عن كيفيته ويستعد للاستحالة إلى جوهر المتغذى، فتفعل فيه قوة من خدم القوة الغاذية، وهى الهاضمة وهى التى تذيب الغذاء فى الحيوان، وتعده للنفوذ المستوى، ثم أن القوة الغاذية تحيله فى الحيوان الدموى أول الإحالة إلى الدم والأخلاط التى منها قوام البدن على ما بينا فى مواضع أخرى، وكل عضو فإنه يختص بقوة غاذية تكون فيه وتحيل الغذاء إلى مشابهته الخاصة فتلصقه به، فالقوة الغاذية تورد البدل أى بدل ما يتحلل وتشبه وتلصق، وأنه وإن كان الغذاء اكثر منافعه أنه يقوم بدل ما يتحلل، فإنه ليست الحاجة إلى الغذاء لذلك فقط بل قد تحتاج إليه الطبيعة فى أول الأمر للتربية، وإن كان بعد ذلك إنما تحتاج إلى وضعه موضع المتحلل فقط، فالقوة الغاذية من قوى النفس النباتية تفعل فى جميع مدة بقاء الشخص وما دامت موجودة تفعل أفاعيلها وجد النبات والحيوان باقيين، فإن بطلت لم يوجد النبات والحيوان باقيين، وليس كذلك حال سائر القوى النباتية، والنامية تفعل فى أول كون الحيوان فعلا ليس هو التغذية فقط، وذلك لأن غاية التغذية ما حددناه، وأما هذه القوة فإنها توزع الغذاء على خلاف مقتضى القوة الغاذية، وذلك لأن الذى للقوة الغاذية لذاتها أن توتى كل عضو من الغذاء بقدر عظمه وصغره وتلصق به من الغذاء بمقداره الذى له على السواء، وأما القوة النامية فإنها تسلب جانبا من البدن من الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة فى جهة أخرى فتلصقه تلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أخرى مستخدمة للغاذية فى جميع ذلك، ولو كان الأمر إلى الغاذية لسوت بينها أو لفضلت الجهة التى نقصتها النامية، مثال ذلك أن الغاذية: إذا انفردت وقوى فعلها وكان ما تورد أكثر مما يتحلل فإنها تزيد فى عرض الأعضاء وعمقها زيادة ظاهرة بالتسمين ولا تزيد فى الطول زيادة يعتد بها، وأما المربية فإنها تزيد فى الطول أكثر كثيرا مما تزيد فى العرض والزيادة فى الطول أصعب من الزيادة فى العرض، وذلك لأن الزيادة فى الطول يحتاج فيها إلى تنفيذ الغذاء فى الأعضاء الصلبة من العظام والعصب تفيذا فى أجزاءها طولا لتنميها وتبعد بين أطرافها، والزيادة فى العرض قد تغنى فيها تربية اللحم وتغذية العظم أيضا عرضا من غير حاجة إلى تنفيذ شىء كثير فيه وتحريكه، وربما كانت أعضاء هى فى أول النشوء صغيرة وأعضاء هي فى أول النشوء كبيرة، ثم يحتاج فى آخر النشوء أن يصير ما هو أصغر أكبر وما هو أكبر أصغر، فلو كان التدبير إلى الغاذية لكان يستمر ذلك على نسبة واحدة، فالقوة الغاذية من حيث هى غاذية تأتى بالغذاء وتقتضى إلصاقه بالبدن على النحو المستوى أو القريب من المستوى وعلى الوجه الذى فى طبعها أن تفعله عند الإسمان، وأما النامية فتوعز إلى الغاذية بأن تقسم ذلك الغذاء وتنفذه إلى حيث تقتضى التربية خلافا لمقتضى الغاذية، والغاذية تخدمها فى ذلك لأن الغاذية لا محالة هى الملصقة لكنها تكون متصرفة تحت تصريف القوة المربية، والقوة المربية إنما تنحو نحو تمام النشوء، وأما المولدة فلها فعلان، أحدهما تخليق البزر وتشكيله وتطبيعه، والثانى إفادة أجزاءه فى الاستحالة الثانية صورها من القوى والمقادير والأعداد والأشكال والخشونة والملاسة وما يتصل بذلك متسخرة تحت تدبير المنفرد بالجبروت، فتكون الغاذية تمدها بالغذاء والنامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة، فهذا الفعل يتم منها فى أول تكون الشىء، ثم يبقى التدبير مفوضا إلى النامية والغاذية، فإذا كاد فعل النامية يستتم فحينئذ تنبعث القوة المولدة فى توليد البزر والمنى لتسكنهما القوة التى هى من جنسها مع الخادمتين، وبالجملة فإن القوة الغاذية مقصودة ليحفظ بها جوهر الشخص، والقوة النامية مقصودة ليتم بها جوهر الشخص، والقوة المولدة مقصودة ليستبقى بها النوع إذ كان حب الدوام أمرا فائضا من الإله على كل شىء فما لم يصلح أن يبقى بشخصه ويصلح أن يبقى بنوعه فإنه تنبعث فيه قوة إلى استجلاب بدل يعقبه ليحفظ به نوعه، فالغاذية تورد بدل ما يتحلل من الشخص والمولدة تورد بدل ما يتحلل من النوع، وقد ظن بعضهم أن الغاذية نار لأن النار تغتذى وتنمو، وقد أخطأ من وجهين، أحدهما من جهة أن الغاذية ليست تغتذى بنفسها بل تغذو البدن وتنميه، والنار إن كانت تغتذى فهى إنما تغذى وتنمى نفسها، ومن وجه آخر أن النار ليست تغتذى بل تتولد شيئا بعد شىء ويطفأ ما تقدم، ثم لو كانت تغتذى وكان حكمها حكم غذاء الأبدان لما كان يجب أن يكون للأبدان وقوف فى النمو، فإن النار ما دامت تجد مادة لم تقف بل تزيدت إلى غير نهاية، وأعجب من هذا ما قال صاحب هذا القول إن الأشجار تعرق من أسفل لأن الأرضية تتحرك إلى أسفل وتفترع إلى فوق لأن النار تتحرك إلى فوق، فأول غلطه هو أن كثيرا من النبات أغصانه أقل من عروقه، وثانيا أنه لم لا ينفصل بهذه الحركة فيفارق الثقيل الخفيف، فإن كان ذلك لتدبير النفس فليجعل التعريق والتفريع أيضا لنفس، وعلى أنه يشبه أن يكون الفوق فى النبات حيث رأسه، ورأس النبات عروقه ومنه منشأة، ثم إن آلة هذه القوة الأولية هى الحار الغريزى، فإن الحار هو المستعد لتحريك المواد ويتبعه البرد لتسكينها عند الكمالات من الخلق مختومة عليها، وأما من الكيفيات المنفعلة فآلتها الأولية الرطوبة، فإنها هى التى تتخلق وتتشكل وتتبعها اليبوسة ، فإنها تحفظ الشكل وتفيد التماسك، والقوة النباتية التى فى الحيوان فإنها تولد جسما حيوانيا، وذلك لأنها نباتية تتعلق بها قوة الحيوان، وهى الفصل الذى لها مما يشاركها فى كونها ذات قوة التغذية والنمو فتمزج الأركان والعناصر مزاجا يصلح للحيوان إذ ليس تتولى مزاجها القوة المشتركة بين النبات والحيوان من حيث هى مشتركة، فإنها من حيث هى مشتركة لا توجب مزاجا خاصا، بل إنما توجب مزاجا خاصا فيها لأنها مع أنها غاذية هى أيضا حيوانية فى طباعها أن تحس وتحرك إذا حصلت الآلة، وهى بعينها حافظة لذلك التأليف والمزاج حفظا إذا أضيف إلى ذوات التأليف كان قسريا، لأنه ليس من طباع العناصر والأجسام المتضادة أن تأتلف لذاتها بل من طباعها الميل إلى جهات مختلفة، وإنما تؤلفها النفس الخاصة مثلا فى النخلة نفس نخلية وفى العنب نفس عنبية وبالجملة النفس التى تكون صورة لتلك المادة، والنفس إذا صارت نخلية كان لها مع أنها نفس النمو زيادة أنها نفس نخلية وفى العنب أنها نفس عنبية، وليست النخلة تحتاج إلى نفس نباتية ونفس أخرى تكون بتلك النفس نخلة وإن كان ليس لها أفعال خارجة عن أفعال النبات، بل تكون نفسها النباتية فى نباتيتها أنها نخلية، وأما النفس النباتية التى فى الحيوان فإنها تعد خلقة الحيوان نحو أفعال غير أفعالها وحدها من حيث هى نباتية، فهى مدبرة نفس حيوانية، بل هى بالحقيقة غير نفس نباتية أللهم إلا أن يقال إنها نفس نباتية بالمعنى الذى ذكرنا أعنى العام، فالفصل المقوم الذى عنه نفس نفس من النفوس النباتية أعنى الفصول التى لنبت ما دون نبت ما لا يكون إلا مبدأ فعل نباتى مخصص فقط، وأما النفس النباتية الحيوانية ففصلها القاسم إياها المقوم لنوع نوع تحتها هو قوة النفس الحيوانية المقارنة لها التى يعد لها البدن، وهو فصل على نحو الفصول التى تكون للبسائط لا التى تكون للمركبات، وأما النفس الإنسانية فلا تتعلق بالبدن تعلقا صوريا كما نبين، فلا تحتاج أن يعد لها عضو، نعم قد تتميز الحيوانية التى لها عن سائر الحيوانات وكذلك الأعضاء المعدة لحيوانيتها أيضا،
صفحه ۵۷