فنقول قد اختلف الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسلك إليه فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك، ومنهم من جمع المسلكين، ومنهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة، فمن سلك منهم جهة الحركة فقد كان يخيل عنده أن التحريك لا يصدر ألا عن متحرك وأن المحرك الأول يكون لا محالة متحركا بذاته، وكانت النفس محركة أولية إليها يتراقى التحريك من الأعضاء والعضل والأعصاب، فجعل النفس متحركة لذاتها وجعلها لذلك جوهرا غير مائت معتقدا أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت، قال ولذلك ما كانت الأجسام السماوية ليست تفسد والسبب فيه دوام حركتها، فمنهم من من منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته، ومنهم من جعلها جسما وطلب الجسم المتحرك بذاته، فمنهم من جعلها ما كان من الأجرام التى لا تتجزأ كريا ليسهل دوام حركتها، وزعم أن الحيوان يستنشق ذلك بالتنفس وأن التنفس غذاء للنفس، وأن النفس يستبقى النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التى هى الأجرام التى لا تتجزأ التى هى المبادى، وأنها متحركة بذاتها كما ترى من حركة الهباء دائما فى الجو، ولذلك صلحت أن تحرك غيرها، ومنهم من قال إنها ليست هى النفس بل إن محركها هو النفس وهى فيها وتدخل البدن بدخولها، ومنهم من جعل النفس نارا ورأى أن النار دائمة الحركة، وأما من سلك طريق الإدرك فمنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له، فوجب أن تكون النفس مبدأ، فجعلها من الجنس الذى كان يراه المبدأ إما نارا أو هواء أو أرضا أو ماء، ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التى هى مبدأ التكون، وبعضهم جعلها جسما بخاريا إذ كان يرى البخار مبدأ الأشياء، وعلى حسب المذاهب التى عرفتها، فكل هؤلاء كان يقول إن النفس إنما تعرف الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها، وكذلك من رأى أن المبادى هى الأعداد فإنه جعل النفس عددا، ومنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس مركبا من الأشياء التى يراها عناصر، وهذا هو أنبادقليس فإنه جعل النفس مركبة من العناصر الأربعة ومن الغلبة والمحبة، وقال إنما تدرك النفس كل شىء بشبيهه فيها، وأما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا إن النفس عدد محرك لذاته، فهمى عدد لأنها مدركة ومحركة لذاتها لأنها محركة أولية، وأما الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخص فمنهم من قال إن النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها، ومنهم من قال بل برودة وإن النفس مشتق من النفس، والنفس هو الشىء المبرد ولهذا ما نتبرد بالاستنشاق لنحفظ جوهر النفس، ومنهم من قال بل النفس هو الدم لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة، ومنهم من قال بل النفس مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم يتغير صحت الحياة، ومنهم من قال بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر وذلك لأنا نعلم أن تأليفا ما يحتاج إليه حتى يكون من العناصر حيوان، ولأن النفس تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم والأرابيع والطعوم وتلتذ بها، ومن الناس من ظن أن النفس هو الإلهى - تعالى عما يقوله الملحدون - وأنه يكون فى كل شىء بحسبه فيكون فى شىء طبعا وفى شىء عقلا وفى شىء نفسا - سبحانه وتعالى عما يشركون،
صفحه ۱۹