وللجوهر خاصية تعم جميع أنواعه، لكن ليست خاصية للجوهر بالقياس إلى كل عرض بل بالقياس إلى بعض الأعراض؛ وهو أنه لا ضد له إذ كان لا موضوع له. والضد الذى الكلام فيه ههنا فهو أمر مشارك لما هو ضده فى الموضوع، وهما ذاتان يتعاقبان عليه ويستحيل اجتماعهما فيه. وأما إن عنى بالضد كل مشارك فى محل،كان مادة أو موضوعا، كان القول فى هذا الباب قولا آخر، ولم يبعد أن يكون للجواهر الصورية ضد.
وليس على المنطقى أن يحاول إبانة هذه الأشياء بالتحقيق، فلن يفى بها وسعه، بل أكثر ما يحتمله هو أن يعرف ذلك بالاستقراء أو بحجج مأخوذة من المشهورات، وأن تزال عنه شكوك تعرض له من أمثلة مستقرأة تفهمه أن ما اختلج فى صدره أو ألقى إليه من الشكوك كاذب، وإن كان زوالها لا يوجب اعتقاده أن هذا صادق.
والاستقراء يبين أنه لا ضد للإنسان والفرس. وأما الجسم الحار والجسم البارد فليسا يتضادان بذاتيهما، بل العرض، إذ المتضادان فيهما هما الحرارة والبرودة.
وهذه الخاصية تشاركها فيها مقولات أخرى، فإنه لا ضد أيضا للكمية. فإن تشكك متشكك وأورد الصغير والكبير مناقضة لهذا الرأى، فإلى أن يحل ذلك ويبطل، فعليه أن يتأمل ليعلم أن الأربعة والثلاثة والخمسة ليس لها أضداد، إذ ليس شئ من العدد أولى بأن يجعل فى غاية المخالفة لها فيكون ضدا، إلا وهناك ما هو أبعد وأشد مخالفة منه. فإذا علم أن لا ضد للثلاثة ولا للأربعة بهذا القدر من البيان، وجد للجوهر مشاركا فى أنه لا ضد له من الكمية؛ وهو أنواع ذكرناها؛ وإن كان مثلا من الكمية ما له ضد، وهو الكثرة والقلة، إن كانتا كميتين وكانتا متضادتين. وإذ الاعتراض يرتفع مع تسليم وجود التضاد فى الكبير والصغير والكثرة والقلة، فلا فائدة ههنا فى الاشتغال ببيان أن الكثرة والقلة والكبر والصغر ليست كميات ولا متضادات أيضا.
ثم الكمية، وإن شاركت الجوهر فى هذا، فإن أنواعا من المقولات الأخرى لا تشاركه؛ فإن أكثر الكيفية لها أضداد، وإن كان بعضها أيضا لا ضدله.
وتتبع هذه الخاصة خاصة أخرى؛ وهى أن الجوهر أيضا لا يقبل الأشد والأضعف؛ فإن المشتد يشتد عن حالة هى ضد الحالة التى يشتد إليها؛ فلا يزال يخرج عن حالة الضعف يسيرا يسيرا متوجها إلى حالة القوة، أو عن حالة القوة متوجها إلى حالة الضعف؛ والحالتان متقابلتان متضادتان لا تجتمعان. فإن كانتا أعراضا كان الاشتداد والضعف فى الأعراض، وهذا مما يكون؛ وإن كانتا جواهر كان فى الجوهر تضاد، وقد منع ذلك.
فإذا وضعت الخاصة التى قبل هذه وضعا مطلقا صارت هذه الخاصة موضوعة أيضا، فإن الاشتداد والتنقص ينتفى مع انتفاء التضاد.
ثم الضرب من التضاد الذى لم يتشدد فى رفعه عن الجواهر، فذلك مما لا يحتمل المصير من بعضها إلى بعض على سبيل الاشتداد والتضعف؛ فليس كل الأضداد يكون الانتقال من بعضها إلى بعض على السبيل؛ بل ربما كان دفعة. بل رفع قبول التضاد يرفع التنقص والاشتداد؛ ووضعه لا يوجبه ولا يضعه.
صفحه ۸۵