فهذا ما يقضى به فى أمر الحركة. فأما هذه الأخرى فنقول فيها قولا كليا؛ ثم نورد مايقال فيها فى المشهور؛ ثم نقول فيها الحق فنقول: إنه ليس كل وجود أشياء لاتدخل فى المقولات ضارا فى أن المقولات عشر، بل نحو واحد منها وهو أن تكون أشياء لاتدخل فى إحدى المقولات العشر ولها أجناس أخرى هى أنواع تحتها. وإذ ليس يجب في بادئ النظر أن يكون لكل ذات موجودة مشارك فى الحد هو آخر غيره موجودا حتى تكون تلك الذات موجودة، فليس يجب أن يكون لكل شئ نوع مقول على كثيرين بالفعل. ولو كان أيضا لكل شئ نوع مقول على كثيرين بالعدد، لم يجب أن يكون مع ذلك النوع نوع آخر مشارك له فى ماهية مشتركة، حتى يكون هناك جنس، فلا يمتنع أن تكون أمور مفردة لامشارك لها فى نوعها، وأنواع إنما هى أنواع بالقياس إلى ماتحتها، ولا قياس لها إلى مافوقها حتى تكون هى أنواع أجناس فوقها. وإذ كان العقل الأول لايمنع هذا فليس مستحيلا ظاهر الاستحالة بنفسه. وإذ ليس كذلك، فإن كانت أشخاص مفردة لا أنواع لها البتة، ولا أجناس على الشرط المذكور، وأنواع لا أجناس لها، لم يكن شئ من ذلك داخلا فى مقولة، وكان مع ذلك حقا ما قيل من أن المقولات هى هذه العشرة؛ إذ الخارج عنها ليس بمقولة فى نفسه ولا فى مقولة غيرها. ومثال هذا أنه لو قال قائل: إنه لا بلاد إلا عشرة بلاد فوجد قوما بداة لايتمدنون، لم يصر وقوعهم خارجا عن هذه البلاد سببا فى أن لاتكون هذه البلاد عشرة. فلو سلمنا أن جميع ما أوردوا خارج عن المقولات، لم يكن ذلك موجبا أن لاتكون المقولات عشرا فقط، إلا أن يصح أن لتلك الأشياء أجناسا خارج العشرة. وبعد ذلك، فإن الأجوبة المشهورة عن هذه بعضها يسلم أن هذه الأشياء خارجة عن العشر؛ ولا تتكلف نوعا آخر من الجواب، وخصوصا ماكان منها يجرى مجرى المبادئ، كالوحدة والنقطة والهيولى والصورة؛ فإنهم يزعمون أن المبادئ لاتدخل فى شئ من المقولات؛ وذلك لأن هذه المبادئ هى مبادئ المقولات؛ و مبادئ المقولات؛ لو دخلت فى المقولات؛ لكانت مبادئ لأنفسها. وبعضها لايسلم خروج المبادئ عن المقولات؛ بل يجعل المبدأ وذا المبدأ في مقولة واحدة ويقول: إن الوحدة من جملة الكم؛ وإن الواحد فى العدد، والعدد كم؛ وكذلك النقطة في الخط، والخط كم. وكذلك يقولون فى الأعدام، وإنها من مقولات ملكاتها، كالعمى من الكيف، والسكون من مقولة أن ينفعل، إن كانت الحركة من مقولة أن ينفعل. وشرذمة من المتخلفين يأتون فيجعلون للشئ الواحد مقولات كثيرة فيقولون مثلا: إن النقطة، من حيث هى طرف الخط، فمن المضاف؛ ومن حيث هى هيئة ما، فهى من الكيف؛ وإن الشمال من حيث هو جسم، فهو من الجوهر؛ ومن حيث هو متحرك، فهو من مقولة أن ينفعل؛ ومن حيث هو مختص بأحد القطبين، فهو من الأين؛ والتغذى، من حيث هو تحريك، فهو من مقولة يفعل؛ ومن حيث هو للمتغذى، فهو من المضاف؛ ومن حيث هو فى زمان مخصوص، فهو من مقولة متى. فعلينا أن نتأمل ماتقوله طائفة طائفة من هؤلاء الذين اقتصصنا آراءهم فنقول: إن الذين يزعمون أن هذه المبادئ مبادئ للمقولة بأسرها، فلا تكون من المقولة، يجازفون فى قولهم مجازفة مطلقة. أما أولا فليست الوحدة مبدأ للكمية بأسرها؛بل هى مبدأ لنوع منها، وهو الكم المنفصل. والنقطة أيضا، إن كانت مبدأ لها فليست مبدأ للكمية بأسرها بل للمقدار. على أنه سيتبين لك فى استقصائك للمعارف أنه ليست حال النقطة كالوحدة، فإن الوحدة مبدأ للعدد على أنها علة؛ ومبدأ على أنها طرف؛ وليست النقطة كذلك؛ فإنها ليست البتة علة للمقدار؛ بل هى مبدأ على أنها طرف. وإنما يظن أن النقطة علة للخط قوم متقاعدون عن الحقائق، أزالتهم التمثيلات والتخيلات التى تستعمل فى تفهيم النقطة عن الجادة؛ ومع ذلك فإنهما لو كانتا مبدأين، لم يكن نفس كونهما مبدأين يوجب أن لايكونا، أعنى النقطة والوحدة، من الكم، حتى كان يكون الكم أعم من المتصل والمنفصل حينئذ؛ إذ يقع على النقطة والوحدة؛ وكان يكونان مبدأين عليين للمتصل والمنفصل كما هما الآن، ولم يكونا مبدأين لجميع مقولة الكم. وهل يسلم من يجعل النقطة والوحدة فى مقولة الكم إنهما مبدآن للكمية بأسرها ؟ هذا إنما يسلمه من يجعل الكم مقتصر الحمل على المتصل والمنفصل فقط، حتى يكون ماهو مبدأ لهما مبدأ لجميع ما فى المقولة. ولو أنه سلم هذا لظهر له أن الوحدة والنقطة ليستا بكميتين؛ من غير أن يحتاج إلى اعتبار المبدئية. وإذ يتشكك فى هذا متشكك فقد يشكك فى ذلك، فكيف تقبل أن الوحدة والنقطة مبدآن لجميع الكمية، إلا أن طريق الحق فى هذا هو أن تنظر: فإن كان رسم الكمية مما يقال على الوحدة والنقطة، وكان المقول مع ذلك ذاتيا وجزءا لحد كل واحد من الوحدة والنقطة، فالكمية جنس لهما، كانا مبدأين أو لم يكونا؛ فإن كانا مبدأين لم يكونا حينئذ مبدأين لجميع الكميات، بل لما يعدهما؛ وإن كان لايقال أو يقال قولا غير ذاتى، فليست الكمية جنسا لهما.
فإذا فعلت هذا، فإنك تجد رسم الكمية غير مقول على الوحدة والنقطة، وتجد رسم الجوهر مقولا على الهيولى والصورة. وسيأتيك رسم الكمية من بعد، فاعتبر ماكلفناكه هناك.وأما رسم الجوهر فقد مر لك أنه الموجود لا فى موضوع. وتجد هذا الرسم مقولا على الهيولى والصورة قولا ذاتيا، فتجد الهيولى والصورة داخلتين فى مقولة الجوهر، وهما مبدآن لبعض ما تقال عليه المقولة، وهو الأجسام الطبيعية؛ فلا كون الشئ مبدأ ما مانع من أن يشارك ماهو له مبدأ فى المقولة، ولا كونه مبدأ موجب ذلك؛ بل المعتمد اعتبار حاله عند رسم المقولة.
صفحه ۷۲