إنه قد جرت العادة في تفهم هذه الخمسة أن يقال: إن منها ماهو طبيعى، ومنها ماهو منطقى، ومنها ماهو عقلى؛ وربما قيل: إن منها ماهو قبل الكثرة، ومنها ماهو في الكثرة، ومنها ماهو بعد الكثرة.وجرت العادة بأن يجعل البحث عن ذلك متصلا بالبحث عن أمر الجنس والنوع - وإن كان ذلك عاما للكليات الخمس - فنقول متشبهين بمن سلف: إن كل واحد من الأمور التى تأتى أمثلة لإحدى هذه الخمسة، هو في نفسه شئ، وفي أنه جنس أو نوع أو فصل أو خاصة أو عرض عام شئ؛ولنجعل مثال ذلك من الجنس فنقول: إن الحيوان في نفسه معنى، سواء كان موجودا في الأعيان أو متصورا في النفس، وليس بنفسه بعام ولا خاص؛ ولو كان في نفسه عاما حتى كانت الحيوانية - لأنها حيوانية - عامة، لوجب أن لايكون حيوان شخصى، بل كان كل حيوان عاما؛ ولو كان الحيوان - لأنه حيوان - شخصيا أيضا، لما كان يجوز أن يكون إلا شخصا واحدا، ذلك الشخص الذى تقتضيه الحيوانية، وكان لايجوز أن يكون شخص آخر حيوانا، بل الحيوان في نفسه شئ يتصور في الذهن حيوانا، وبحسب تصوره حيوانا لايكون إلا حيوانا فقط؛ فإن تصور معه أنه عام وخاص وغير ذلك، فقد تصور معه معنى زائد على أنه حيوان يعرض للحيوانية؛ فإن للحيوانية لا تصير شخصا مشارا ثم يشك في كثير منها فلا يدرى أنها محتاجة إلى موضوع حتى يبرهن عليه في صناعة الفلسفة الأولى؛ وحتى إن قوما جعلوا هذه الأمور جواهر. فنسبة العرض إلى هذه نسبة الموجود إلى ماهيات العشرة من حيث ليس داخلا في الماهية. وكما أن الموجود ليس مقوما لماهية هذه العشرة، كذلك العرضية ليست مقومة لماهية التسعة، فلذلك لايوجد في حد شئ منها أنه عرض.
الفصل الثالث فصل (ج) في تعقب أقوال من أوجب فيها نقصانا أو مداخلة
وأما الذين تكلفوا أن يجعلوا بعض هذه داخلا في بعض وأن يحصروها في مقولات أقل عددا، فمنهم من جعل المقولات أربعا: الجوهر والكمية والمضاف والكيفية، وجعل المضاف يعم البواقى؛ لأنها كانت منسوبة. ومنهم من جمع الست في جنس خامس؛ إذ عد الأربعة؛ ثم قال والخامس الأطراف التي تأخذ من الكيفية شيئا. وبطلان هذا المذهب وما يجانسه يظهر لك حيث نعلمك رسوم هذه وخواصها؛ فإنه يتضح لك أنها متباينة. وليس الذي قيل في تباينها: إن الدليل على أن الكمية منها تخالف الكيفية أن الجسم ربما زادت كميته وحجمه وضعفت كيفيته؛ وبالعكس، فالكمية مخالفة للكيفية شيئا؛ فإن من لايسلم تخالف الكيفية والكمية يقول: إن كمية مازادت فانتقصت كمية ما أخرى؛ أو كيفية ما زادت فا نتقصت كيفية ما أخرى؛ وليس إذا اختلف هذان اللذان أشرت إليهما يمتنع أن يدخلا في مقولة واحدة؛ فإن الأضداد التي لاتجتمع معا، بل تتعاقب، قد تجتمع في مقولة، بل في جنس قريب واحد؛ ولا يوجب اختلافهما البالغ تباينهما في المقولة. وأنت تعلم أن هذا التنافر الذي بينها أشد من التنافر بين ماذكر سالفا؛ ولكن المعول في معرفة الفصول بين هذه من الرسوم التي سنوضح لها، فتعلم أن بعضها غير داخل في بعض.
وأما أن عدة منها هل تدخل في جملة، كمن ظن أن المضاف يشتمل على البواقى، فسنبين بطلان ذلك من أن نحقق لك في باب المضاف أن المضاف الحقيقي لايحمل على شئ من المقولات الأخرى حمل الجنس؛ ولكن يوجد في كل واحد منها بأن يعرض له فيكون له نسبة إلى شئ يصير بها مضافا إليه، من غير أن يصير المضاف جنسا له، ونعرفك أن الشئ لايصير، بسبب أن له شيئا، وأنه في شئ أو مع شئ، مضافا إليه، بل بأن تأخذه بعد ذلك، منحيث له ذلك؛ فيعرض له أن تكون ماهيته من جهة هذا الاعتبار مقولة بالقياس إلى غيره؛ فإن كون زيد في الدار هو نسبته التى هو بها أين. وهذه النسبة ليست إضافة بل أينا.
صفحه ۲۴