172

أقل أحوال القضايا أن تكون ثنائية، ثم يصرح بالرابطة فتصير ثلاثية، ثم قد تقرن بها الجهة فتصير رباعية. والجهة لفظ يدل على النسبة التى للمحمول عند الموضوع، فتعين أنها نسبة ضرورة أو لا ضرورة، فتدل على تأكد أو جواز؛ وقد تسمى الجهة نوعا. والجهات ثلاث: واحدة تدل على استحقاق دوام الوجود وهى الواجبة، وأخرى تدل على استحقاق دوام اللاوجود وهى الممتنعة، وأخرى تدل على أنه لا استحقاق دوام الوجود ولا وجود وهى الجهة الممكنة. والفرق بين الجهة والمادة أن الجهة لفظة زائدة على المحمول والموضوع والرابطة مصرح بها تدل على قوة الربط أو وهنه دلالة باللفظ ربما كذبت، وأما المادة وقد تسمى عنصرا فهى حال المحمول فى نفسه بالقياس الإيجابىإلى الموضوع فى كيفية وجوده الذى لو دل عليه لفظ لكان يدل بالجهة. وقد تكون القضية ذات جهة تخالف مادتها فإنك إذا قلت: كل إنسان يجب أن يكون كاتبا، كانت الجهة من الواجب والمادة من الممكن. وكما أن السور من حقه أن يجاور به الموضوع والرابطة من حقها أن يجاور بها المحمول، فكذلك الجهة من حقها أن يجاور بها الرابطة إن لم يكن سور. فإن كان سور كان لها موضعان سواء بقى المعنى واحدا أو اختلف، أحدهما الرابطة والآخر السور. وكان لك أن تقرنها لهذا وبذلك، فإنك تقول: يمكن أن يكون كل واحد من الناس كاتبا، وتقول: كل إنسان يمكن أن يكون كاتبا، وكذلك تقول: يمكن أن يكون بعض الناس كاتبا، وتقول: بعض الناس يمكن أن يكون كاتبا. وأما فى السلب الكلى فلا تجد فى لغة العرب له إلا لفظة واحدة وهو أن تقول: يمكن أن لا يكون أحد من الناس كاتبا، ولا تجد أخرى يقرن فيها بالرابطة دون السور إلا أن تقول: ولا واحد من الناس إلا ويمكن أن لا يكون كاتبا أو تقول: كل إنسان يمكن أن لا يكون كاتبا. لكن هذا اللفظ أشبه بالإيجاب. وأما السلب الجزئى فنقول فيه القولين جميعا، فنقول: يمكن أن لا يكون كل إنسان كاتبا، وبعض الناس يمكن أن لايكون كاتبا. وقبل أن نحقق القول فى هذه وننظر هل معنى ماقرن فيه لفظة الجهة بالرابطة وما قرن فيه لفظة الجهة بالسور واحد أو ليس، وإن لم يكن واحدا فهل هما متلازمان أو ليسا. فيجب أن تعلم شيئا آخر فنقول كما أنك حين لم تكن أدخلت الرابطة فى القضية الشخصية، كان الواجب الطبيعى إن أردت السلب أن تقرن الحرف السالب بالمحمول، ثم لما أدخلت رابطة المحمول وجب إن أردت السلب أن تلحق حرف السلب بالرابطة فلم يكن سلب قولنا: زيد يوجد عادلا؛ قولنا: زيد يوجد لا عادلا، بل قولنا: زيد لا يوجد عادلا؛ فكيف وتانك قد تكذبان إذا كان زيد معدوما. فكذلك لما ألحقت الجهة على الرابطة فإنك متى أردت السلب يجب عليك أن تقرن حرف السلب بما تقدم فترفع جملة ما تأخر لا بعض ما تأخر. فلذلك إذا قلت: يمكن أن يكون زيد كاتبا، فسلبه ليس إمكان السلب، بل سلب الإمكان، أعنى ليس هو قولك: يمكن أن لا يكون، بل قولك: لا يمكن أن يكون. وكيف وقولك: يمكن أن لا يكون، يسالم قولك: يمكن أن يكون فى الصدق. وكذلك إذا قلت: يجب أن يكون زيد كاتبا، ليس سلبه يجب أن لا يكون كاتبا، فكلاهما يتسالمان فى الكذب، بل ليس يجب أن يكون. وكذلك إذا قلت: يمتنع أن يكون زيد كاتبا، ليس سلبه أن تقول: يمتنع أن لا يكون زيد كاتبا، فإن قولك: يمتنع أن لا يكون زيد كاتبا، يسالمه فى الكذب، بل سلب قولك يمتنع أن يكون زيد كاتبا؛ هو قولك: ليس يمتنع أن يكون زيد كاتبا، وأما يمكن أن يكون مع ليس يمكن أن يكون ويجب أن يكون مع ليس يجب أن يكون ويمتنع أن يكون مع ليس يمتنع أن يكون، فلا تتفق على الصدق البتة ولا على الكذب بعدأن تكون سائر الشرائط موجودة. وكذلك محتمل أن يكون مع ليس بمحتمل أن يكون ويشبه أن يكون المحتمل إنما يعنى به ما هو عندنا كذلك. والممكن ما هو فى نفس الأمر كذلك ويشبه أن يعنى به معنى آخر، وهو أن المحتمل ما يعتبر فيه حال المستقبل ويكون فى الوقت معدوما، والممكن ما لا دوام له فى وجود أو عدم كان موجودا أو لم يكن. وقال قوم إن الممكن يعنى به العام والمحتمل الخاص، لكن قولهم غير مستمر فى ألفاظه. ويشبه أن يكون بين الممكن والمحتمل فرق آخر لم يحضرنى ولا كثير افتقار إلى تمحله وطلبه، فنقول: إن حق الجهة أن تقرن بالرابطة، وذلك لأنها تدل على كيفية الربط للمحمول على شىء مطلقا أو بسور معمم أو مخصص، فالسور مبين لكمية حمل مكيف الربط. فإذا قلنا: كل إنسان يمكن أن يكون كاتبا، فهو الطبيعى، ومعناه: أن كل واحد من الناس يمكن أن يكون كاتبا، فإن قرن بالسور ولم يرد به إزالة عن الموضع الطبيعى على سبيل التوسع، بل أريد به الدلالة على أن موضعها الطبيعى مجاورة السور، لم يكن جهة للربط بل جهة للتعميم والتخصيص، وتغير المعنى، وصار الممكن هو أن كون كل واحد من الناس كافتهم كاتبا ممكن. والدليل على تغير المعنى أن الأول لا يشك فيه عند جمهور الناس فإن كل واحد واحد من الناس يعلم أنه لا يجب له فى طبيعته دوام كتابة أو غير كتابة، وأما قولنا: يمكن أن يكون كل إنسان كاتبا، على أن الإمكان جهة الكلية والسور، فقد يشك فيه. فإن من الناس من يقول: محال أن يكون كل الناس كاتبين أى محال أن يوجد أن كل إنسان هو كاتب، حتى يكون اتفق أن لا واحد من الناس إلا وهو كاتب. فإذن بين المعنين فرقان.

صفحه ۱۹۷