حقيقة والطائفتان عن الصراط المستقيم ناكبتان.
فصل: ومن ذ لك قوله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ فها هنا أمران تجنيب عبادتها واجتنابه فسأل الخليل ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها ليحصل منهم اجتنابها فالاجتناب فعلهم والتجنيب فعله ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله ونظير ذلك قول يوسف الصديق: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وصرف كيدهن هو صرف دواعي قلوبهن ومكرهن بألسنتهن وأعمالهن وتلك أفعال اختيارية وهو سبحانه الصارف لها فالصرف فعله والانصراف أثر فعله وهو فعل النسوة ومن ذلك قوله سبحانه لنبيه محمد ﷺ: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ فالتثبيت فعله والثبات فعل رسوله فهو سبحانه المثبت وعبده الثابت ومثله قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ فأخبر سبحانه أن تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين فعله فإنه يفعل ما يشاء وأما الثبات والضلال فمحض أفعالهم ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ فأخبر أنه هو الذي قسى قلوبهم حتى صارت قاسية فالقساوة وصفها وفعلها وهي أثر فعله وهو جعلها قاسية وذلك أثر معاصيهم ونقضهم ميثاقهم وتركهم بعض ما ذكروا به فالآية مبطلة لقول القدرية والجبرية.
فصل: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ وهم إنما خرجوا باختيارهم وقد أخبر هو الذي أخرجهم فالإخراج فعله حقيقة والخروج فعلهم حقيقة ولولا إخراجه لما خرجوا وهذا بخلاف قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْر﴾ وقوله: ﴿أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ فإن هذا إخراج لا صنع لهم فيه فإنه بغير اختيارهم وإرادتهم وأما قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقّ﴾ فيحتمل أن يكون إخراجا بقدره ومشيئته فيكون من الأول ويحتمل أن يكون إخراجا يوجبه بأمره فلا يكون من هذا فيكون الإخراج في كتاب الله ثلاثة أنواع أحدها إخراج الخارج بإختياره ومشيئته والثاني إخراجه قهرا وكرها والثالث إخراجه أمرا وشرعا.
فصل: وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ وجعلوا ذلك من أدلتهم على القدرية ولم يفهموا مراد الآية وليست من هذا الباب فإن هذا خطاب لهم في واقعة بدر حيث أنزل الله سبحانه وملائكته فقتلوا أعداءه فلم يفرد المسلمون بقتلهم بل قتلتهم الملائكة وأما رميه ﷺ فمقدوره كان هو الحذف والإلقاء وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع البعد وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم فلم يكن من فعله ولكنه فعل الله وحده فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت له الحذف بقوله إذ رميت ونفى عنه الإيصال بقوله وما رميت.
فصل: ومن ذلك قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ والضحك والبكاء فعلان اختياريان فهو سبحانه المضحك المبكي حقيقة والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة وتأويل الآية بخلاف ذلك إخراج للكلام
1 / 59