وابتلاهم بالنعم والمصائب فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودا عيانا بعد أن كان غيبا في علمه فابتلى أبوي الإنس والجن كل منهما بالآخر فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه فلهذا قال للملائكة: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ واستمر هذا الابتلاء في الذرية إلى يوم القيامة فابتلى الأنبياء بأممهم وابتلى أممهم بهم وقال لعبده ورسوله وخليله إني مبتليك ومبتل بك وقال: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ وقال: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ وفي الحديث الصحيح: "أن ثلاثة أراد الله أن يبتليهم أبرص وأقرع وأعمى فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في علمه قبل أن يخلقهم فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه وأنه كان أعمى فقيرا فأعطاه الله البصر والغنى وبذل للسائل ما طلبه شكرا لله وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كان عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر وقال في الغنى إنما أوتيته كابرا عن كابر وهذا حال أكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولا من نقص أو جهل وفقر وذنوب وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه وأنعم بذلك عليه ولهذا ينبه سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف من الماء المهين ثم نقله في أطباق خلقه وأطواره من حال إلى حال حتى جعله بشرا سويا يسمع ويبصر ويقول وينطق ويبطش ويعلم فنسي مبدأه وأوله وكيف كان ولم يعترف بنعم ربه عليه كما قال تعالى: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُون﴾ وأنت إذا تأملت ارتباط إحدى الجملتين بالأخرى وجدت تحتها كنزا عظيما من كنوز المعرفة والعلم فأشار سبحانه بمبدأ خلقه مما يعلمون من النطفة وما بعدها إلى موضع الحجة والآية الدالة على وجوده ووحدانيته وكماله وتفرده بالربوبية والإلهية وأنه لا يحسن به مع ذلك أن يتركهم سدى لا يرسل إليهم رسولا ولا ينزل عليهم كتابا وأنه لا يعجز مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقا جديدا ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من الخير والشر فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم يكذبون ويكذبون رسلي ويعدلون بي خلقي وهم يعلمون من أي شيء خلقتهم ويشبه هذا قوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ﴾ وهم كانوا مصدقين بأنه خالقهم ولكن احتج عليهم بخلقه لهم على توحيده ومعرفته وصدق رسله فدعاهم منهم ومن خلقه إلى الإقرار بأسمائه وصفاته وتوحيده وصدق رسله والإيمان بالمعاد وهو سبحانه يذكر عباده بنعمه عليهم ويدعوهم بها إلى معرفته ومحبته وتصديق رسله والإيمان بلقائه كما تضمنته سورة النعم وهي سورة النحل من قوله: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ فذكرهم بأصول النعم وفروعها وعددها عليهم نعمة نعمة وأخبر أنه أنعم بذلك عليهم ليسلموا له فتكمل نعمه عليهم بالإسلام الذي هو رأس النعم ثم أخبر عمن كفره ولم يشكر نعمه بقوله: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ قال مجاهد: "المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم" وقال عون بن عبد الله: "يقولون لولا فلان لكان كذا وكذا" وقال الفراء وابن قتيبة: "يعرفون أن النعم من الله ولكن يقولون هذه بشفاعة آلهتنا" وقالت طائفة: "النعمة ههنا محمد ﷺ وإنكارها جحدهم نبوته" وهذا يروى عن مجاهد والسدّي وهذا أقرب إلى حقيقة الإنكار فإنه إنكار لما هو أجل النعم أن تكون نعمة وأما على القول الأول والثاني والثالث فإنهم لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا
1 / 36