وأنت فيمكنك أن تتخذ الملح من رماد كل محترق، ومن كل حجر يفيده التكليس حدة ومرارة، إذا طبخته فى الماء، وصفيته، ولم تزل تطبخ ذلك الماء أو تدعه فى الشمس، فإنه ينعقد ملحا. ولهذا ما يتخذ قوم من القلى ومن النورة ومن الرماد ملحا متى شاؤوا.
وسبب ملوحة العرق والبول مخالطة المرارة المحترقة المائية فيملح. ولما أعوز الملح فى بعض البلاد كانو يتخذونه من رماد قصب وشجر يكون لهم بهذا التدبير.
وليس ما ظن قوم من أن ملوحة ماء البحر إنما هى بسبب أن الكثيف منه يبقى محتبسا فيه بعد تبخر البخارات اللطيفة، فيكون بسببه مرا. ومعلوم أن كثافته باختلاط الأرضية به. فإن لم تزد شرطا، وقلت بمجرد الكثافة، فهلا كان الطين مرا أو ملحا؟ ولم، إذا عاد إليه ماء يتبخر عنه فى الأودية العذبة والأمطار الجود، لا يعود البتة مرة أخرى عذبا؟ فمن المعلوم أن البحر، وإن أنفق صيفا، فإنه يسترجع شتاء.
والماء بنفسه ليس فيه كثيف ولطيف، بل هو متشابه الأجزاء. إنما الكثيف منه ما خالطته أرضية؛ لأنه لا شىء أكثف من الماء إلا الأرض، والأرضى إذا خالطته أرضية لا كيفية لها لم يتكيف، وإنما يتكيف من كيفية الأرض. فإن كانت الأرضية شديدة المرارة لم يتملح؛ بل يزعق، وإن كانت قليلة المرارة، بحيث إذا تحلل فى الماء، قبل نوعا من الاستحالة عن مرارته، ملح. وأى ماء ملح طبخته انعقد منه، آخر الطبخ لا محالة، ملح، وحتى من البول والعرق ومياه أنهار ملحة.
والدليل على أن ماء البحر يتملح بمخالطته الأرضية، وليس ذلك طبيعيا له، أنه يقطر ويرشح فيكون عذبا، وقد تتخذ كرة من شمع فترسل فيه، فيرشح العذب إلى باطنه رشحا.
صفحه ۲۰۶