230

شعر و فکر: مطالعاتی در ادبیات و فلسفه

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرها

ويتحدث هسرل في موضع ثان عن أن من طبيعة البشرية أن تعمل على تطوير نفسها، وتضفي على العالم طابعا إنسانيا. ما معنى هذا القول؟ معناه أولا أن الإنسان يطور ذاته باستمرار على المستوى النفسي، وبوصفه شخصا. ومعناه ثانيا أن هذا يرجع إلى أنه يحيا حياته في عمل متصل، وأنه ينتج ما ينتجه بنشاطه الفردي أو الجماعي. ومعناه ثالثا أن هذا التشكيل الفعال للبيئة يخلع على العالم معنى إنسانيا. و«أنسنة» العالم هذه أو خلع الطابع الإنساني عليه يتم عن طريق التعاون المشترك مع الآخرين. فالأفراد يحققون على الدوام أفعالا، ويقومون بأعمال في إطار الجماعة ومع الجماعة. ونتيجة هذه الأعمال تدخل في تكوين العالم. فالعمل إذن هو الذي يصبغ العالم بصبغة إنسانية. ويعبر هسرل عن هذا بوضوح عندما يقول إن العالم يعرض علينا وجهه العقلي أو الروحي، وهذا الوجه هو العمل. وهو كذلك ما ينتج عن العمل، سواء أكان عملا مقصودا أم غير مقصود.

والواقع أن الأمر منذ البداية لا يتعلق بالصنع وحده، ولا بالفعل الأدائي، بل يتعلق بالعمل الشخصي الذي يوثق رابطة الفرد مع الآخرين، ويحثه على التواصل معهم، ويتيح له أن يحقق شخصيته الاجتماعية، وأن يكون - نتيجة لذلك - شخصا مشاركا في جماعة نشطة (راجع الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثالث، ص391 وما بعدها). (12)

على الرغم من الأهمية البالغة للمنطلقات التي أشرنا إليها، فإن هسرل لم يستعن بها على اكتشاف العالم. ولهذا فسوف نحاول أن نقوم بهذا في القسم الثاني من تأملاتنا. سنحاول، من منظور العمل، أن نقوم بتحليل مواز لذلك التحليل الذي أجريناه مع هسرل في القسم الأول من المحاضرة، عندما كنا بصدد تفسير الأفق اعتمادا على مفاهيم معينة، كالمهاد والتحديد والعالم، ولكننا لن نلجأ إلى هذه المفاهيم باعتبارها نماذج يقتدى بها، بل سنسترشد بها في القيام بالتحليل الموازي الذي أشرنا إليه. (13)

لو أننا بحثنا عن مفهوم مكافئ للمهاد المعيش ببساطة، لكان أول ما يخطر على بالنا - على الأرجح - هو الفعل أو العمل. فإذا حاولنا أن نفسر معنى العمل تبينا أنه في الواقع مواز للتحديد، ولكن كيف كان هذا ممكنا؟ لنسأل أنفسنا ببساطة ما مقومات العمل؟ أو بتعبير أفضل، ما المقومات التي يدخل فيها العمل؟ ولا ننسى أن العمل الذي نقصده هنا ليس هو العمل الشيئي أو الأدائي، فالعمل يدل على الانطلاق من شيء والاتجاه إلى شيء. فقد استثير في باعث أو دافع معين، جعلني أسعى لتحقيق شيء ما في المستقبل. ثم إنني لا أعمل إلا بالنظر إلى الآخرين الذين يعملون هم أيضا في إطار موقف معين، ولكن ما معنى الموقف الذي يوجد فيه عدة أشخاص يشتركون سويا في العمل؟

الموقف جزء من تاريخ. ولقد نشأ وتطور ابتداء من ماض، كما أنه يشير في ذاته إلى المستقبل. وفي الموقف تكون لدي مقاصد معينة، وغايات أحققها بواسطة العمل، مثلي في ذلك تماما مثل الآخرين الذين ينتمون - بوصفهم عاملين - إلى الموقف نفسه. والموقف في النهاية وضع حاضر في تاريخ. (14)

من الطبيعي أن يؤدي بنا هذا إلى السؤال التالي: ما هذا الذي نسميه تاريخا؟ وهي مشكلة معقدة لا يمكن أن نتناولها هنا بكل تفصيلاتها. وقبل أن نسأل عن معنى تاريخ معين وعن مضمونه، نود أن نطرح هذا السؤال: أين يتبين - أول ما يتبين - معنى تاريخ معين ووحدته؟ وسنجد هذا الجواب في تاريخ

4

يروى كتابة أو مشافهة، في حكاية، في قصة.

5

والتاريخ الذي يروى، أو يمكن أن يروى، يمكننا أيضا أن نسميه قصة،

صفحه نامشخص