وقد أقام سعد في منزله الذي حدده له عمر قريبا من البادية وقريبا من حضر العراق أيضا، وظل كذلك حتى جاءته الفرس في جموع عظيمة فلم يكن من قتالها بد، فكانت وقعة القادسية التي طالت وشقت، وامتحن المسلمون فيها امتحانا شديدا، ولكن الله أنزل عليهم نصره بعد خطوب، فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة، ولقوا منهم مع ذلك شرا عظيما، ولكن النصر أطمعهم في النصر وأغراهم باتباع الفرس وغزوهم في عقر دارهم.
وقد استقر في نفس عمر، وفي نفس الذين كانوا يشيرون عليه في المدينة، وفي نفس سعد بن أبي وقاص أيضا: أن المسلمين لن يكسروا شوكة الفرس، ولن يفلوا حدهم إلا إذا غزوهم في عقر دارهم، وأخذوا عاصمتهم المدائن. وكانوا يعتقدون أنهم إن دخلوا العاصمة وأزعجوا عنها كسرى يزدجرد ملك الفرس أمنوا جانبهم وأيأسوهم من العراق.
وقد مضى سعد بجيشه إلى المدائن فدخلها مظفرا وخرج عنها الملك هاربا، وأتيح للمسلمين أن يتخذوا إيوان كسرى مصلى.
ومنذ فتح المدائن كان عمر يود لو وقفت الحرب عند هذا الحد، وكان يقول مرة: وددت لو أن بيننا وبينهم جبلا من نار. ويقول مرة أخرى: وددت لو أن بيننا وبينهم بحرا من نار؛ لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم. ولكن الله لم ينشئ لعمر جبلا من نار، ولا بحرا من نار، وإنما ألقى في نفوس الفرس التصميم على أن يستردوا ما فقدوا، ويثأروا من المسلمين لهزيمتهم، فكانت جموعهم لا تفض إلا تألفت منهم جموع أخرى عظيمة الكثرة شديدة البأس، وكان المسلمون مضطرين إلى أن يفضوا هذه الجموع كلما ائتلفت؛ ليأمنوا على ما في أيديهم من جهة وليضيفوا إليه ما يزيده ويكثره، وكانت جيوش المسلمين لا تنتصر في موقعة إلا طمعت في أن تنتصر في موقعة أخرى.
وكذلك التقوا بالفرس في جلولاء وانتصروا عليهم، والتقوا بهم في نهاوند وانتصروا عليهم، والتقوا بهم في حلوان وانتصروا عليهم أيضا. وقد هم عمر بعد هذه المواقع الكبرى أن يقف الحرب، وكان قد مصر المصرين في العراق: «الكوفة والبصرة»، وأراد أن ينزل فيهما المسلمين ليكونوا ردءا لمن وراءهم ومددا لمن بين أيديهم. وكان ملك الفرس كلما انتصر المسلمون في موقعة أبعد في الهرب، وأحس بعض المسملين أنهم لن يكسروا شوكة الفرس ولن يفلوا حدهم حقا ما دام للفرس ملك قائم يجمعهم ويغريهم بالحرب ويدفعهم إليها؛ ذلك أن المصرين الجديدين في العراق كانا يتنافسان أشد التنافس في الفتح وفي بسط ما كانا يليانه من الأرض الفارسية.
وكان حظ الكوفة من سواد العراق ومما فتح من أرض الفرس أعظم من حظ البصرة، فكان أهل البصرة يطمعون في أن يوسعوا رقعتهم ويكثروا من الفتوح ليتاح لهم من الغنائم وسعة الفيء، إلى ما كانوا يؤمنون به من فضل الجهاد والغزو في سبيل الله، حتى قال الأحنف بن قيس ذات يوم لعمر، وكان عنده في وفد البصرة: إن عيشنا أضيق من عيش إخواننا في الكوفة، وإنا لن نأمن من الفرس ولن نفرغ منهم حتى نظفر بملكهم أو نقتله.
وما زال المصران يلحان على عمر في أن يأذن للناس في الانسياح في الأرض حتى انتزعوا منه الإذن في ذلك انتزاعا، فاندفع أهل البصرة حتى بلغوا من الفتح ما أرادوا، وجعلوا يزعجون الملك عن مدن الفرس مدينة مدينة، حتى أزعجوه عن خراسان كلها وألجئوه إلى أن يعبر النهر إلى الترك، وقد استمد ملك الفرس ملك الترك واستعان به على استرداد وطنه من المسلمين، فاستجاب له ملك الترك حتى أقبل مؤازارا له، ولكن المسلمين ثبتوا للترك كما ثبتوا للفرس من قبل، وما زالوا بالترك حتى أيأسوهم واضطروهم إلى أن يرجعوا إلى بلادهم.
وكذلك فتحت على عمر بلاد كسرى كلها في هذه المدة القصيرة التى تولى فيها أمور المسلمين في عشر سنين وأشهر.
وما زال يزدجرد مشردا حتى قتل في أيام عثمان رحمه الله؛ قتله رجل من مواطنيه.
ولم يكتف المسلمون بما فتح الله عليهم في المغرب من الشام وفلسطين ومصر وبرقة، وما فتح الله عليهم في المشرق من أرض كسرى، ولكن الظروف اضطرتهم إلى أن يؤمنوا الشام بفتح الجزيرة فافتتحوها، ولم يبق بينهم وبين الروم إلا هذه الحدود الطبيعية التي اعتصم الروم من ورائها حتى اقتحمها المسلمون في أيام معاوية محاولين فتح قسطنطينية، ولكن لهذه المحاولة موضعا آخر في غير هذا الحديث.
صفحه نامشخص