فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين إكبارا يوشك أن يكون تقديسا لهما، ثم أرسلوا أنفسهم على سجيتها في مدحهما والثناء عليهما، وإذا كان من الحق أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نفسه قد كذب الناس عليه، وكان كثير من هذا الكذب مصدره الإكبار والتقديس، فلا غرابة في أن يكون إكبار صاحبيه العظيمين وتقديسهما مصدرا من مصادر الكذب عليهما أيضا.
والقدماء يقصون الأحداث الكبرى التي كانت في أيامهما كأنهم قد شهدوها ورأوها رأي العين، مع أننا نقطع بأن أحدا منهم لم يشهدها، وإنما أرخوا لهذه الأحداث بأخرة، وليس أشد عسرا من التأريخ للمواقع الحربية ووصفها وصفا دقيقا كل الدقة، صادقا كل الصدق، بريئا من الإسراف والتقصير.
والذين يشهدون هذه المواقع ويشاركون فيها لا يستطيعون أن يصفوها هذا الوصف الدقيق الصادق؛ لأنهم لم يروا منها إلا أقلها وأيسرها، لم يروا إلا ما عملوا هم وما وجدوا، وقد شغلهم ذلك عما عمل غيرهم.
وما ظنك بالجندي الذي هو دائما مشغول بالدفاع عن نفسه واتقاء ما يسوقه إليه خصمه من الكيد؟! أتراه قادرا على أن يلاحظ ما يحدث حوله، وما يحدث بعيدا عنه من الهجوم والدفاع، ومن الإقدام والإحجام؟! هيهات! ذلك شيء لا سبيل إليه.
وإنما يستطيع المؤرخون المتقنون أن يحققوا عواقب المواقع وما يكون من انتصار جيش على جيش وانهزام جيش أمام جيش، وما يكون أحيانا من إبطاء النصر أو إسراعه، ومن طول المواقع أو قصرها، ومن امتحان الجيشين المحتربين بما يكون فيهما أو في أحدهما من كثرة القتلى والجرحى، ومن الخطط التي يتخذها القواد للهجوم والدفاع، وما يكون لهذه الخطط من نجح أو إخفاق. فأما إحصاء القتلى والجرحى والغرقى - إن اضطر الجيش المنهزم إلى عبور نهر أو قناة - وإحصاء المنهزمين، بل إحصاء الجيوش نفسها قبل أن تلتقي وحين تلتقي، فشيء لا سبيل إليه، ولا سيما بالقياس إلى الأحداث التي كانت في العصور القديمة حين لم يكن هناك إحصاء دقيق، وحين لم يكن للناس علم بمناهج البحث والاستقصاء وتحقيق أحداث التاريخ.
وقدماء المؤرخين من العرب لم يعرفوا من أمر هذه الأحداث الكبرى إلا ما تناقله الرواة من العرب والموالي، فهم إنما عرفوا تاريخ هذه الأحداث من طريق المنتصرين وحدهم ، بل من طريق الذين لم يشهدوا الانتصار بأنفسهم، وإنما نقلت إليهم أنباؤه نقلا أقل ما يمكن أن يوصف به أنه لم يكن دقيقا، وهم لم يسمعوا أنباء هذا الانتصار من المنهزمين بين فرس وروم وأمم أخرى شاركتهم في الحرب وشاركتهم في الهزيمة، فهم سمعوا صوتا واحدا هو الصوت العربي.
وأيسر ما يجب على المؤرخ المحقق أن يسمع أو يقرأ ما تحدث به أو كتبه المنهزمون والمنتصرون جميعا.
والأحداث الكبرى التي كانت أيام الشيخين خطيرة في نفسها، تبهر الذين يسمعون أنباءها أو يقرءونها، فليست في حاجة إلى أن يتكثر في روايتها المتكثرون، ولا إلى أن يحيطها الرواة بما أحاطوها به من الغلو والإسراف؛ فرد العرب إلى الإسلام بعد أن جحدوه، وإخراج الروم من الشام والجزيرة ومصر وبرقة، وإخراج الفرس من العراق والقضاء على سلطانهم في بلادهم؛ كل هذه أحداث لا سبيل إلى الشك فيها ولا في وقوعها في هذا العصر القصير أثناء خلافة الشيخين، وهي أحداث تصف نفسها وتدل على خطورتها وليست محتاجة إلى المبالغة في وصفها؛ لأنها فوق كل مبالغة، مع أنها حقائق لا معنى للشك فيها.
صفحه نامشخص