سار بنا الحديث في مجلس إلى وسائل الانتقال وسرعتها في هذا العصر، فتحدثنا في سرعة الباخرات والسيارات والطائرات. وذكرنا أنواع الطائرات، وزيادة سرعتها كل حين، وأن طائرة تطوي المسافة بين لندن والقاهرة في خمس ساعات، وطائرة حربية تطوي ثمانمائة ميل أو ألفا في الساعة ... وهلم جرا.
فجأت المتحدثين بسؤالي: ما وراء هذا الإسراع؟ سكت بعض، وابتسم بعض، وعجب آخرون أن أسأل عن جدوى السرعة في عصر السرعة! ولكني كررت سؤالي: ماذا وراء هذا الإسراع؟
قال أحدهم: إن الإسراع يبلغ الإنسان مقصده في زمن قليل فهو يقرب المقاصد، ويوفر الوقت فيوسع العمر. قلت: إن كانت المقاصد التي نسرع إليها مقاصد نافعة، وحاجتنا إليها تلائم الإسراع في تحصيلها، فلا بد من الإسراع ولا ريب في فائدته. وأما إن كان المسرع يقصد السير والتنزه لا غير فليس في إسراعه نفع، وفيه تنغيص المسير والتعريض للهلاك. وإن كان يقصد إلى الجلوس الطويل في ندي أو مقهى فلماذا يسرع ليجلس ويجد ليبطل؟!
وإن كان المسرع مسافرا يقصد إلى مكان يستريح به ويستمتع بالإقامة فيه فلعل في الطريق متعة وراحة كذلك، ولعل في ركوب الباخرة ما يتصل بقصده أكثر من الطائرة. وإن كان الإسراع ليسبق تاجر تاجرا ببضاعته في الأسواق، وسواء عند الناس أن تسبق إليهم بضاعة هذا التاجر أو ذاك، فليس في هذا الإسراع نفع، ولكنه ينفع إنسانا أو جماعة ينافسون في جمع المال.
إن الإسراع قد ذهب بالسكينة والطمأنينة، ونال من أجسام الناس وعقولهم، فينبغي ألا يكون إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
الأحد 9 صفر/19 نوفمبر
في السلك السياسي
هذا النظام ولد في أوروبا ونشأ وترعرع، فجمع كثيرا من سننهم وآثار تاريخهم. كان في أوروبا ملوك متنافسون يتحاربون ويتصالحون، وكان الملك يرسل رسولا إلى ملك آخر فيبالغ الرسول في أبهته والإعراب عن عظمة ملكه وقوة بلاده. وتنافس الرسل الذين يرسلون إلى ملك واحد في تقدم بعضهم على بعض، ومفاخرة بعضهم بعضا، فوضعت قوانين تنظم صلاتهم ودرجاتهم، واجتمعت على مر الزمان ضروب من المراسم عمل بها الممثلون السياسيون. ولكن حرية الأمم وتسلطها، وضعف سلطان الملوك وغلبة الشورى، وميل الناس إلى التحلل من القيود قللت من هذه المراسم، وحطت من شأنها. فالتمثيل اليوم قول وعمل في مصالح الدولتين، دولة الرسول والدولة المرسل إليها، وفي مصالح البشر. ولم يبق للدسائس والمكر والخداع، والقمر شأنها الأول.
وبقيت مراسم محببة إلى الناس من الزيارات والحفلات التي تجمع الرجال والنساء في زينتهن وفتنتهن، وما يتصل بهذه من آداب وضعوها وحرصوا عليها، وأكثرها رياء وسخافة. ولا يزال بعض الممثلين، ولا سيما الشبان يحسبون أن هذه الحفلات وما فيها من لهو ومتعة لها المكان الأول في أعمال الممثل، فإن أحسنها وشهدها فحسبه، وليست في الحقيقة إلا ضروبا من اللهو، أو وسائل إلى التعارف تقدر قدرها، وينبغي ألا يغالى في تقويمها. وترى كثيرا من أهل الشرق - ولا سيما المسلمين، وهم لم يتعودوا هذه الأمور في بلادهم - في خلاف وقلق وحيرة، منهم من يفعل ما يفعل الغربيون وزيادة، ومنهم من يقف على الحافة يشهد الحفلات ويدعو إليها ويتبع فيها رأيه. وقد آن أن يكون للمسلمين - وقد استقلوا بأمورهم - آداب في اجتماعهم وتزاورهم يخالفون غيرهم ويوافقونهم برأيهم، ويسيرون على سنن ملائم لعاداتهم وآدابهم وأفكارهم.
الإثنين 10 صفر/20 نوفمبر
صفحه نامشخص