151

إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا .

وأسعد الناس من لم تلجئه الأيام إلى الاستنجاد باللئام. نسأل الله أن يرزقنا العافية ولا يحوجنا إلى من سواه.

الثلاثاء 12محرم/24 أكتوبر

الفقه والحفظ

الجزئيات لا تحد، وإن حدت فما يحيط بها إنسان، وإن أحاط بها لم تكن فائدتها كفاء النصب في حفظها. هب فقيها قرأ كتابا في الفقه مبسوطا ، وكرر قراءته يريد الإحاطة بمسائله، فهو لا يحيط بها، وإن أحاط بها لم يحط بالفقه، وكثيرا ما تعرض له حادثات لا يجد حكمها فيما حفظ. ثم ليست جدوى حفظ ما يحفظ على قدر التعب في تحصيله ويبقى عقله بعد القراءة والتكرار والحفظ والإحاطة صفحات الكتاب، وسجل مسائل وجدول أحكام. فإن فكر الفقيه فعرف أصول الفقه، أعني القواعد القانونية وما يتصل بها من مقدمات عمرانية، وأمور نفسية وغيرها، فصار مجتهدا فقد أحاط بالفقه إحاطة، لم يحط بمسائله وأحكامه فعلا، ولكن أحاط بكل الأحكام قوة. فمهما تعرض له من حادثات ومهما يسأل فيه من أحكام، استطاع أن يفتي فيها من عقله وفقهه، لا من حفظه وكتابه، وكان إدراكه في كل مسألة إدراكا حيا، يعرف بواطن الأمور وظواهرها، والمصلحة والمفسدة بها، ومكانها من نظام الأمة التي تقع فيها.

كذلك ينبغي أن يعنى المعلمون والمتعلمون بفقه العلوم لا بمسائلها، ينبغي أن يقصد في التعليم إلى معرفة أصول العلم، والتمكن في هذه المعرفة حتى يستطيع المتعلم أن يفرع من هذه الأصول ما يشاء، وحتى تجده كل حين مدركا هذه الأصول، متصلا بها عقله وفكره ولا يعد مسائل حفظها ثم ينساها. كنت أقول وأنا طالب علم ومعلم: انظروا إلى طلبة العلم، لو إن أعيد امتحانهم بعد شهر فيما نجحوا فيه، لم ينجحوا؛ قد حفظوا ولم يفقهوا وحصلوا لينسوا، فأي علم هذا، وأي تعليم؟

الأربعاء 13 محرم/25 أكتوبر

صوفي في حلة مذهبة

قلت لنفسي وقد لبست حلة رسمية موشاة محلاة مزركشة: ما أبعد هذا مما تدعي من التصوف! أين من التصوف هذه الزينة، وهذه الأبهة وهذه الخيلاء؟ قالت: إنها زينة ومن حرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ وليست خيلاء فما اختلت بها، ولا زهيت ولا داخلني العجب، وإن في لنفورا خفيا، وكراهية.

وذكرت ما قال الجنيد من قبل: «إنما الاعتبار بالحرقة، ليس الاعتبار بالخرقة.» وقلت: ربما تجد صوفيا تحت تاج ملك، وتعرف صوفيا في دست وزارة، وتلقى صوفيا بين آثار النعمة والغنى ، والثروة الواسعة، والجاه العريض. وربما تجد في ثياب الصوفية أبعد الخلق عن التصوف؛ ألبسه ثياب التصوف الفقر أو الرياء، ولو طالت يده الدنيا لملكته وأذلته وصرفته على هواها، وساقته في مفاسدها ومطامعها. إن الصوفي الحق من ينال من الدنيا مالا وجاها وسلطانا فيصرف ما نال بالعدل والحق والإحسان، لا يبطر ولا يطغى ولا يبغي ولا يختال ولا يغتر، يملك الدنيا ولا تملكه، وتصرفها يده ولا تتصرف هي في قلبه. إن الصوفي الحق من يسير في هذه الحياة مجاهدا كادحا كاسبا مسيطرا آخذا معطيا، محبا مبغضا مسالما معاديا مستمتعا متزينا، ولكن لا يعدو الحق والعدل وقصد الخير لنفسه وللناس ساعة، ولا يغفل عن الله سبحانه طرفة عين. فهو في جهاده ودأبه كأنه قانون من قوانين الله السارية في خليقته لا يفتر ولا يحيد، وهو من جهاده وكده في عبادة دائمة، لا تفارقها النية الصالحة، ولا تخلو من ذكر الله. إنما الصوفي الحق الذي يتصوف في المعترك بين الفتن والأهواء لا من يقبع في صومعته، لا يمتحن قلبه ولا يده بمال أو سلطان، ولا يفتن بمعاملة الناس، ولا تحيط به الشهوات. إن تصوفنا غني قوي عادل محسن، لا فقر ذليل ليس عنده ما يعدل فيه ولا ما يحسن به.

صفحه نامشخص