شَوَاهِد التَّوضيح وَالتَّصحيح لمشكلات الجامع الصَّحيح
تأليف
جَمال الدين بن مالك الانَدلسىِ
المتوفى سنة ٦٧٢ هـ
تَحقيق
الدكتور طَه مُحسِن
مكتبة ابن تيمية
1 / 1
شَوَاهد التَّوضيح والتَّصحيح لمشكلات الجامع الصحيح
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٠٥ هـ
الطبعة الثانيةْ
١٤١٣ هـ
1 / 4
الاَّهداء
الى ام عُمرَ ومضرَ وعائشة
1 / 5
بِسم اللهِ الرحمِن الرَحيِم.
المُقَدمَة
أشهر النحاة الذين عرفهم تاريخ النحو العربي في القرن السابع للهجرة وما بعده أبو عبد الله جمال الدين محمد بن مالك الطائي، المولود في الأندلس سنة ست مئة للهجرة، والمتوفى في دمشق سنهَ اثنتن وسبعين وست مئة للهجرة، بعدما ترك مصنفات في العربية ونحوها، نالت شهرة عريضة، وشغل بها الدارسون من بعده، وظلت أساسًا لأكثر الدراسات النحوية الى اليوم.
وكّتابه "شواهد التوضيح والتصحيع لمشكلات الجامع الصحيح" من خيرة الكتب التي تكشف عن اسلوبه في النقاش، وتبين سعهَ افقه واحاطته بشواهد اللغة. وهو من أبرز الاصول في موضوع الاحتجاج بالحديث الشريف فِى الدراسات النحوية، ولا يستغني عن الرجوع اليه باحث في هذا الجانب من لغة القران الكريم.
طبع الكتاب لأول مرة في إله آباد بالهند عام ١٣١٩ هـ. ثم نشره عن هذه النسخة المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي بعدما خرّج نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف ومجموعة من شواهد الشعر وضبطها.
وخلال مطالعتي للكتاب أحسست وأنا أنعم النظر في بحوثه بأنَ ثمة نصوصًا ناقصة وألفاظًا محرفة، وتصحيفات شوهت آراء مؤلفه، وأوقعته في مَظِنّة ارتكاب الخطا. فدفعني هذا الى معارضة المطبوع على بعض مخطوطاته، وخلصت بعد المقابلة الى صحة ما رأيت، فرحت اسجل ما وجدته يخدم الكتاب من التقويم والاصلاح، حتى تجمعت ملاحظات أستطيع تلخيصها في الامور الآتية:
الأمر الأول- سقوط ألفاظ وعبارات بسبب انتقال البصر أو رداءة الأصل أو عدم الدقة في النقل.
والثاني- وقوع أخطاء تتصل برسم الحروف وشكلها، وتحريف كلمات شوهت المتن.
والثالث- ورود شواهد على غير جهتها التي هي مراد المؤلف في الاحتجاج، على الرغم مما بذله المحقق في تخريجها.
1 / 7
والأمر الرابع- إثبات المحقق زيادات في المتن من غير أن ينبه عليها. وظهرت أكثرها في عنوانات الأبحاث وتسلسلها؛ لأن ابن مالك لم يضع شيئًا منها لكتابه كما دلت المخطوطات. وكانت العنوانات غير دقيقة أحيانا؛ لأنها لم تنبى عن حقيقة البحوث، ولم تحددها بصورةٍ جامعة. وهي إلى ذلك تضمنت أخطاءً علمية ولغوية، مع اضطراب ترتيبها أحيانًا، وعدم جريانها على سنن واحد في البحوث من حيث الطول ومن حيث المادة.
وقد نبهت على أكثر ما وقع في المطبوعة من التحريف والوهم في مقال لي (١) كانت الغاية منه خدمة الكتاب، وبيان حقيقة نشرته، ليكون الباحثون على بينة من الأمر، ولكيلا يقعوا في أخطاء ليسوا عارفين بها، ولا ينسبوا إلى ابن مالك مالا يرتضيه من آراء (٢).
فالنص الصحيح والاستنباط الدقيق متلازمان في البحث العلمي تلازم الروح والجسد، لا يستغني أحدهما عن الآخر. وكم من رأي ضعيف نُسب إلى عالم بسبب الاعتماد على كتاب لم تتوفر له الخدمة عند التحقيق والطبع.
ومن هنا وجدت الأسباب داعية إلى اعادة تحقيق هذا السفر النفيس بعدما توفر من مخطوطاته مايوجب القيام بالعمل. ودفعني إلى ذلك أكثر انقضاء ما يزيد على ربع قرن على صدور نشرة المرحوم محمَّد فؤاد عبد الباقي. وخلال هذه الفترة طبعت جملة من مصنفات ابن مالك، وظهرت أصول جديدة، ومراجع متعددة في الدرس النحوي وشواهده، يمكن الركون إليها في تخريج الآراء والنصوص، وضبط الشواهد، لكي يخرج النص بالمنزلة التي تليق به.
قدمت بين يدي" شواهد التوضيح" دراسةً ابتدأتها بتحقيق اسم الكتاب،
_________
(١) نشر في مجلة المجمع العلمي العراقي- (المجلد الثالث والثلاثون- الجزءان الثاني والثالث) عام ١٩٨٢. وزادت التنبيهات فيه على اكثر من مئة وعشرين موضعًا من المطبوعة. ثم وجدت بعد الفراغ من التحقيق امورًا كثير اخرى لم أدرجها في ذلك البحث. ولعل مقابلة سريعة بين النص الذي اقدمه محققًا وتلك المطبوعة سيجلي رداءة الطبعة. وذلك وحده أوجب اعادة تحقيق الكتاب.
(٢) ناقش باحثون بعض آراء ابن مالك. ونُسبت إليه بسبب الاعتماد على مطبوعة "شواهد التوضيح" المشوهة أقوال لا تصح له. ولزياده الإيضاح يراجع بحثي "في أصول التحقيق العلمي وطبع النصوص" المنشور في مجلة (المورد) البغدادية: المجلد الثاني عشر - العدد الأول- سنة ١٩٨٣.
1 / 8
ونسبته إلى ابن مالك، ثم بينت دوافع تأليفه وزمنه ومادته، وتكلمت على منهج الكتاب واسلوبه، ودرست شواهده وطريقة الاستشهاد فيه. ووضحت بعد ذلك قيمة الكتاب، وأبديت بعض المآحْذ عليه. ثم ختمت الدراسة بوصف المخطوطات المعتمدة، وطريقتي في التحقيق
وخلصت من ذلك الى ايراد النص محققًا ومقابلًا على أربع مخطوطات، متبعًا الطريقة العلمية، ومستفيدًا من تجربتي في هذا الميدان. وقصرت تعليقاتي على ما يخدم المتن من الإيضاح دون إثقاله بحواش لايفيد منها الباحث أو القارئ.
ولم أجد بي حاجة إلى التعريف بمؤلفُ الكتاب "جمال الدين بن مالك". فهو صاحب "الألفية" و"التسهيل". وشهرته تغنى عن التعريف به. ولا اريد أن اكرر ما ذكره الباحثون قبلي، وبسطوا القول فيه؛ فقدْ عَرَّفوا بحياته وبآثاره في مقدمة كتبه التي قاموا بتحقيقها.
وبعد:
فهذا كتاب "شواهد التوضيح والتصحيح" اقدمه إلى القارئ الكريم بثوب جديد. وقد بذلت في سبيل اخراجه اخراجًا صحيحًا ما يحتمله جهدي، وأعطيته الوقت ما ملكت، ولم أضن عليه بالاخلاص والصبر والوقت. وأملي كبير في ان أكون قد وفقت إلى اسكمال ما كان في طبعته السابقة من نقص أو قصور.
ولا يفوتني في الختام ان ازجي خالص شكري، وجزيل ثنائي إلى أخي الأستاذ الدكتور حسين تورال، الذي أرسل الىّ مخطوطتين من "شواهد التوضيح" كتبت إحداهما عام ثمان وستين وست مئة، في عصر المؤلف ابن مالك. وقد تجشم عناء تصويرهما من مكتبات تركيا. فرفع فى مبادرته هذه الحرج الذي كان يخامرنى حين انهيت التحقيق على المخطوطتين العراقيتين، وجعلني أطمئن إلى ان ما اعتمدت عليه من المخطوطات الأربع يكفي لاخراج النص اخراجًا صحيحًا.
ومن الله استمد التوفيق والرشاد.
الدكتور طه محسن عبد الرحمن
بغداد - وزارة التربية
1 / 9
اسم الكتاب ونسبته إلى ابن مالك
نص المؤلف في الصفحة الأولى من الكتاب على اسمه فقال: (هذا كتاب سميته شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح).
وذكرت المراجع التىِ استعنتُ بها هذا الاسم. واتفقت عليه مخطوطات الكتاب التي نظرت فيها، إلا واحدة هي مخطوطة مكتبة الأوقاف المرقمة (٦٥٨١)، إذ كتب اسم الكتاب في صفحة العنوان منها (التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح).
وسقوط كلمة "شواهد" هنا سهو من الناسخ؛ لأنه أثبتها في الصفحة الأولى من المخطوطة نفسها في قول ابن مالك (هذا كتاب سميته شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح).
وقد يختصر العنوان فيقتصر على "شواهد التوضيح". ومثل هذا الاختصار شائع في عنوانات الكتب الطويلةِ عند القدماء والمحدثين.
وأما نسبته إلى ابن مالك فلم أجد خلافًا فيها. ولم تصادفني صعوبة في تحقيقها. فالمصادر القديمة التي ذكرت الكتاب متفقة على نسبته إليه، وذكر اسمه على المخطرطات التي قرأت عنها في الفهارس، أو التي اطلعت عليها. وليس فيها ما يخالف ذلك.
ويؤيد صحة هذه النسبة ما نقله الباحثون على اختلاف عصورهم من الكتاب معزوًا الي مؤلفه. ووجدت النصوص المنقولة في هذه الأصول مطابقة لما في "شواهد (٣) التوضيح".
وأضيف إلى ما ذكرت من الأدلة التطابقَ الواضح بين اسلوب الكتاب وآراء مؤلفه وشواهده مع ما يرد من ذلك في مصنفات ابن مالك الأخرى الثابتة له، مثل "شرح تسهيل الفوائد" و"شرح عمدة الحافظ" وغيرهما.
_________
(٣) ينظر على سبيل المثال: فتح الباري، لابن حجر ١/ ١٩ و٢/ ٣٦ و٣/ ٦ و٧/ ٥٣ و١٢/ ٣٦٦/ و١٣/ ٩٧. وعمدة القاري. للعيني ١/ ٢٤. وشرح السيوطي على سنن النسائي ١/ ٤٤ و٣/ ٧٢. ويقابل بشواهد التوضيح: البحوث المرقمة ٢٥ و٦٣ و٤٦ و٤٠ و٥٦.
1 / 10
دوافع تأليف الكتاب
بعد أن هاجر ابن مالك من الأندلس وإستقر بدمشق، اشتهر بنبوغه وتمكنه من الدراسات اللغوية والنحوية. فطلب إليه فضلاء المحدثين والحفاظ أن يوضح ويصحح لهم مشكلات ألفاظ وروايات وردت في كتاب "الجامع الصحيح" لأبي عبد الله البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ هـ. فأجابهم إلى ذلك، ووضحها وصححها في أحد وسبعين مجلسًا. (٤)
وفي ذلك يقول ابن مالك (وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء، ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلما مر بهم لفظ ذو إشكال بينت فيه الصواب، وضبطته على ما اقتضاه علمي بالعربية، وما افتقر إلى بسط عبارة، وإقامة دلالة أخرت أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام مما يحتاج إليه من نظير وشاهد، ليكون الانتفاع به عامًا، والبيان تامًا إن شاء الله تعالى). (٥)
ومن هذا الكلام نفهم أن "شواهد التوضيح" هو الجزء الذي قام يستوفي الكلام فيه على ما يحتاج إلى شاهد ونظير.
ولكن الذى ينعم النظر فى مباحث الكتاب يستطيع ان يضيف دافعًا آخر، وهو تصدِّي ابن مالك لمناقشة مسائل كانت في الغالب محل خلاف بين النحاة، وأنه رغب في أن يسدّ خللًا رآه في مناهج الذين لم يستقروا الكلام العربي كما يجب، أو اطرحوا كثيرًا من الشواهد النثرية الفصيحة، ولاسيما التي احتفظت بها كتب الحديث وكتب غريبه، فلم يكن له يدّ من تصحيح ما ذهبوا إليه، منطلقا من نصوص "البخاري"، لما له من إحترام وإكبار في نفوس المسلمين.
وأرى أيضًا أن المؤلف حاول أن يقرر مسائل نحوية لم يتسنَّ له ان يضم أكثرها إلى أبواب كتب النحو ذات المنهج التقليدى المعروف، فأدرجها في هذا المصنف. ومنها موضوعات تتصل بعلم المعاني، مثل مسائل الاستفهام والجواب وعود الضمائر ومعاني الحروف وغيرها.
_________
(٤) إرشاد السارى، القسطلاني ١/ ٤١.
(٥) المصدر المتقدم ١/ ٤١.
1 / 11
زمن تاليف الكتاب
ليس بين ايدينا ما يحدد السنة التي أنهى المؤلف وضع كتابه فيها. إذ لم أظفر بما يدل على ذلك أو يشير إليه.
ولكن الباعث الأهم الذي ذكرته في دوافع التأليف يقول إلى القول بأنه من مصنفات ابن مالك المتأخرة؛ ذلك لأنه جاء نتيجة قيامه بالاشراف على مقابلة مخطوطات "الجامع الصحيح" (٦) بطلب من العالم المحدث شرف الدين اليونيني (٦٢١ هـ - ٧٠١ هـ) (٧)، مما حبب إليه جمع الملاحظات اللغوية والنحوية التي عنّت له في أثناء المجالس الاحدى والسبعين، وتعضيد مسائلها بالشاهد والدليل، ثم ضمّنها كتابًا مستقلا. وفي ذلك يقول القسطلاني (كان الجمال بن مالك لما حضر عند المقابلة المذكورة إذا مر من الألفاظ ما يتراءى أنه مخالف لقوانين العربية قال للشرف اليونيني: هل الرواية كذلك؟ فان أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه، ومن ثم وضع كتابه المسمى بـ "شواهد التوضيح") (٨)
ومن الثابت إلاَّ ينهض بمثل هذا العمل الدقيق إلا عارف بالنحو، متمكن من اللغة، مشهور بين الناس بضبطه وعميق عرفانه بالعربية. ولا يتم ذلك إلا بعد أن سارت مؤلفاته في الآفاق واشتهرت.
ونلمح في الكتاب آراء المؤلف النحوية واللغوية واضحة جلية، فيها نضج، وتتسم استنتاجاته بالدقة، ويبدو تمكنه من الاستدلال بالشواهد المستفيضة، ومناقشة آراء أكابر النحاة بالحجة المبيّنة.
_________
(٦) حدد القسطلاني في إرشاد الساري ١/ ٤٠َ تاريخ المقابلة بسنة ست وسبعين وست مئة فى
دمشق. وهذا التاريخ محرف. واظن ان الصواب هو سنة ست وستين أو سبع وستين وست
مئة. وذلك لأن الإجماع منعقد على ان ابن مالك توفي سنة اثنتين وسبعين وستة مئة.
(٧) ترجمته في الذيل على طبقات الحنابلة ٢/ ٣٤٥.
(٨) إرشاد الساري ١/ ٤٠ - ٤١.
1 / 12
مادة الكتاب
تبين مما تقدم أن ابن مالك كان يريد من وراء الكتاب في ظاهر الأمر الاحتجاج لما ورد من مشكلات في ألفاظ حديث "الجامع الصحيح" للبخاري والاستدلال على فصاحتها وموافقتها لكلام العرب، وتوجيه اعرابها على وفق القواعد النحوية.
وقد بلغ ما احتج له أو وجه إعرابه مئة وثمانين حديثًا. وهذا يعني أن مادة الكتاب تنحصر في موضوعات اللغة العربية، إذ بلغ ما ورد منها فيه حوالي مئة وستين مسألة ما عدا المكرر منها، وهو يزيد على العشر.
وتحظى مادة النحو بالنصيب الأوفر من الشرح، إذ لم تزد مسائل الصرف على السبع، وما يتعلق باللغة وتفسير اللفظ ورد في أربعة مواضع، وما عدا ذلك فهو يختص بالموضوعات النحوية.
فالكتاب إذن من مصادر الدراسةة النحوية المفيدة التي امتازت بجديتها، وتكمن اهميتها في الاستعانة بنصوص الحديث والاحتجاج به، والاعتماد عليه في بناء الأحكام اللغوية.
منهج الكتاب وأسلوبه
صدّر المؤلف كتابه بعبارة (هذا كتاب سميته شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح) من غير أن يضع له مقدمة يبين فيها منهجه وطريقته ودوافع تأليفه.
وإذا كان الكتاب يخلو من التبويب ومن تقسيم الموضوعات إلى الفصول أو ما يشبهها، فانى أرى أن عدد المجالس التي أتم بها المؤلف الأشراف على مقابلة مخطوطات "الجامع الصحيح" هي التي تركت أثرها في تقسيم الكتاب على واحد وسبعين بحثا تخلو كلها عن العنوانات ومن التسلسل العددي.
ولأجل التفريق بين كل بحث والذي يليه فقد كان المؤلف يفتتح كل بحث بلفظ "ومنها" ثم يأتي بنصوص "صحيح البخاري" التي يراها مشكلة، وبعدها يوجه إعرابها مبتدئًا كلامه بلفظ "قلت".
1 / 13
وهذه الطريقة -أعني "منها ... " ثم "قلت ... "- هي التي اطردت من أول الكتاب حتى آخر بحث فيه.
وبلغ ما اختاره من المشكل مئة وثمانين نصًا (٩) منها سبعون حديثًا للنبي ﷺ، وتسعون من كلام الصحابة، وحديث واحد لعمر بن عبد العزيز من التابعين، وما بقي فهو من كلام ورقة بن نوفل وأبي جهل وهرقل وصاحبة المزادتين وغيرهم ممن عاصر النبي ﷺ أوجاء بعده بقليل.
والجامع لهذه النصوص كلها ورودها في "صحيح البخاري" على أنها مشكلة في رأي ابن مالك (١٠)، سواء أكانت في رواية واحدة أم جاء إشكالها بسبب الاختلاف الواقع في روايات النسخ المخطوطة للجامع الصحيح. وكان المؤلف يذكر الاختلاف في الروايات أحيانًا، ويترك ذكره في أغلب الأحيان.
وطريقة البحث بجملتها تقوم على إثبات نص الحديث وتعيين محل الاشكال فيه، ثم يوجه المؤلف اعرابه مستعينا بالتمثيل والاحتجاج بالنصوص الفصيحة، مقدمًا شواهد النثر على النظم، وذلك واضح من طريقته وبعض اشاراته، كقوله (والجواز أصح من المنع، لضعف احتجاج المانعين وصحة استعماله نثرًا ونظمًا) (١١) وقوله: (وحذف كان مع اسمها وبقاء خبرها كثير في نثر الكلام ونظمه، فمن النثر قول النبي ﷺ ... ومن النظم قول الشاعر ...) (١٢).
وإذا تنوعت الشواهد على المسألة الواحدة نراه يقدم نصوص القرآن والقراءات على غيرها، ويقدم في الغالب شواهد الحديث على أقوال العرب والنظم، ويقدم أقوال العرب النثرية على شعرهم.
وربما يكتفي عند إلاحتجاج على مسالةٍ ما بالقرآن وحده، أو بالحديث دون غيره، أو بأقوال العرب، أو بأبيات من الشعر فقط. وسأفصل هذا الجانب في بحث "الاستشهاد" إن شاء الله.
_________
(٩) يضاف إلى هذا العدد ثلاثة أحاديث شرحها المؤلف في البحث الرابع والعشرين. وأعاد ذكرها سهوًا في البحث الثاني والخمسين من غير ان يعلق عليها.
(١٠) جاء ضمن هذه النصوص التي يفترض ان تكون كلها من صحيح البخاري أربعة أحاديث تبين بعد التحقيق انها ليست منه، منها اثنان في البحث الثاني والخمسين، واثنان في البحث التاسع والستين.
(١١) شواهد التوضيح الورقة ٩ و.
(١٢) شواهد التوضيح الورقة ١١ ظ.
1 / 14
ولا يستطيع القارئ أن يفهم المقصود من "المشكل" عند المؤلف، لأنه لم يبينه في الكتاب، وليس في المنهج الذي سارعليه ما يفسره.
واذا جاز أن اوضح معناه هنا، بعدما أبهم تعريفه، فاني أرى أنه النص الوارد على خلاف الاستعمال المطرد للاسلوب العربى، وجاء على وفق ما منعه النحاة أو حكموا على مثله بالضرورة أو الشذوذ، أو لم ينبهوا على وروده في الكلام.
وهذا المفهوم لا ينطبق على كل الأحاديث التي تصدى المؤلف لتوجيه إعرابها، وتصويب إشكالها، لأن كثيرًا منها ورد على وفق الاستعمال الصحيح المطرد عند العرب، ولم يختلف النحاة في استقامة اسلوبها.
وبسبب اغفال تحديد مفهوم "المشكل" وجدت المؤلف يسلك طرائق في التعامل مع الأحاديث التي صدر بها البحوث:
فهو تارة يتصدى لتصحيح توجيهات اعرابية فيها خلاف بين النحاة، متخذًا من نص البخاري وسيلة الى ذلك، مثل مناقشة اعراب "يا" في قول ورقة بن نوفل (يا ليتني)، أهي للنداء أم للتنبيه، وذلك في البحث الأول. والمعروف أن "يا ليتني" اسلوب عربى لا إشكال فيه، والخلاف بين النحاة فيه شكلي ليس غير.
وينسى أحيانا أن عمله هو الاحتجاج لما يورده مشكلًا من الحديث، فيعد الحديث الذي يثبته ابتداءً شاهدًا نحويًا، يجيز به ما يشبهه من أساليب، من غير أن يعضد ذلك الحديث بالشواهد الاخرى على حسب المنهج الذي يدل عليه عنوان الكتاب. ومن ذلك اتخاذ الحديث (ما إحبّ أنه يحوّل الى ذهبًا) شاهدًا على استعمال "حوّل" بمعنى "صيّر" (١٣).
وقد يتخذ من الأحاديث منطلقا الى بحث نحوي لم يجده تامًا في كتاب قبله، فيفصل الكلام عليه، ويناقش النحاة فيه، ويلوح هذا في البحث الرابع، وهو موضوع اتصال الضمائر وانفصالها، وليس فى أحاديثه التي عدها مشكلة ما يخالف الاستعمال الفصيح.
ويتصدى أحيانا اخرى لتفسير ألفاظ من الناحية اللغوية حسب، من غير أن يقدم الشواهد عليها، كما فعل في تفسير لفظ "أضيبع" في البحث السادس والخمسين، والفعل "صُرف" في البحث الخامس والستين.
وربما يتعرض لبيان الأوجه الاعرابية الجائزة في لفظ من ألفاظ الحديث بينما
_________
(١٣) شواهد التوضيح، البحث رقم (١٩). وينظر أيضًا بعض مسائل البحثين (٦٧) و(٦٩).
1 / 15
المروي منها وجه واحدٌ أو وجهان. كما نجده في لفظ "يغتسل" في البحث السادس والخمسين، ولفظ "يحبسها" في البحث الستين.
وقد يتخذ من الحديث دليلًا على جواز بعض الاستعمالات التي منعها نحويون قصرت جهودهم عن الاستقراء الصحيح، فيقدم الأدلة على ذلك، مثل البحث الثاني "في وقوع الشرط مضارعًا والجواب ماضيًا". وربما يوجه اعراب بعض الأحاديث ويصحح إشكالها، ويحتج لها، وهو الهدف الذي وضع الكتاب من أجله، ودلّ عليه عنوانه.
* * * * *
استعرض ابن مالك مجموعة من آراء النحاة واللغوين، وناقش طائفة منها.
ويأتي في مقدمة الذين أخذ عنهم أو رد عليهم: سيبويه "ت ١٨٠ هـ" ذكره في اثني عشر موضعًا، والأخفش "ت ٢١٥ هـ" ذكره في عشرة مواضع وهما بصريان، يليهما الفراء "ت ٢٠٧ هـ" ذكره في ستة مواضع. ثم الكسائي "ت ١٨٣ هـ" والمبرد "ت ٢٨٢ هـ" ثم الفارسي "ت ٣٧٧ هـ" وابن جني "ت ٣٩٢ هـ" والزمخشري "ت ٥٣٨ هـ".
وذكر مرة واحدة كلًا من ابى عمرو بن العلاء "ت ١٥٩ هـ" والخليل "ت ١٧٥ هـ" ويونس بن حبيب "ت ١٨٢ هـ" وقطرب "ت ٢٥٦ هـ" والرماني "ت ٣٨٤ هـ" وابن السيد البطليوسي "ت ٥٢١ هـ" وابن الشجري "ت ٥٤٢ هـ" وابن خروف "ت ٦٠٦ هـ".
وربما استعمل عبارات عامة، مثل "النحوين" و"أكثر النحوين" و"بعض النحويين" و"البصريين" و"الكوفيين" و"أكثر الناس" ...
وليس من شك في أن المؤلف استفاد من مصادر متنوعة في النحو واللغة والقراءات والتفسير والحديث وغيرها مما أعانه على النقاش والحجاج.
ولكنه لم يذكر من أسماء المصادر إلا القليل؛ لأنه اكتفى بذكر مؤلفها.
ويتفرد من مصادر النحو "كتاب سيبويه" الذي اعتاد أن يشير إليه باسم مؤلفه، أو يذكر عنوان الباب الذي يقتبس منه، زيادة في التثبت.
ومن كتب الحديث إضافة إلى "الجامع الصحيح" للبخاري يبرز "جامع المسانيد" لابن الجوزي "ت ٥٩٧ هـ" الذي استعان بأحاديثه في عشرة مواضع، و
1 / 16
"غريب الحديث" الذي لم يذكر مؤلفه، اضافة إلى ذكره رواة الحديث كالدارمي "ت ٢٥٥ هـ" وابن ماجة "ت ٢٧٣ هـ" وأبي داود "ت ٢٧٥ هـ" والترمذي "ت ٢٧٩ هـ" الذين نقل عنهم قول النبي ﷺ (يوشك الرجل متكئًا على أريكته يحدّث بحديث من حديثي ...) (١٤).
ومن كتب التفسير ذكر "الكشاف" للزمخشري مرتين. وذكر من كتب القراءات "المحتسب في تبيين وجود شواذ القراءات" لابن جني مرتين أيضًا.
ولا يعني اعتماده على هذا العدد من "المؤلفين أن كتابه صار كدسًا لنصوص منقولة يملأ بها فراغًا عند التصنيف، وإنما كان يلخص الفكرة الواردة في الكتاب المتقدم، ويشير إليها إشارة دقيقة ومختصرة.
وصفحات الكتاب التي تتردد فيها الأسماء كلها شواهد على هذه الطريقة التي برزت من خلالها آراء ابن مالك معضدة بالأدلة والبراهين من كلام العرب. ولم يلجأ إلى النقل الحرفي -إذا استثنينا الشواهد- إلا في ثلاثة مواضع، أخذ في كل منها اسطرًا من كتاب سيبويه اقتضى المقام الاحتكام إلى كلامه حرفيًا. (١٥)
وعلي الرغم من أن الكتاب يختص بموضوعات اللغة العربية ألا أن المؤلف لم يضع منهجا معينا لدرس مسائلها، فلا هو جمع مسائل كل موضوع وخصص لها بحثا مستقلًا على وفق ما نجده في الكتب النحوية، ولا هو اقتفى أثر البخاري في تبويب "الجامع الصحيح" الذي هو محور الدراسة. وإنما كان يختار حديثًا مشكلا يشرحه في بحث مستقل أوحديثين أوثلاثة، ربما يصطفي عشرة أحاديث من أبواب متفرقة من "صحيح البخاري" ويدرجها في بحث واحد.
ومن هنا يتبين سبب التفاوت بين البحوث من حيث الطول. فبينما نجد بحثًا في صفحة واحدة، درست فيه مسألة واحدة، يلقانا بحث شغل ست صفحات أو سبعًا، تكلم فيه المؤلف على مسائل متعددة قد تبلغ العشرة أحيانًا، وتتضح هذه الظاهرة أكثر فيما بعد البحث الخمسين.
والمسائل المندرجة في البحث الواحد تفتقد في الغالب وحدة الموضوع الذي يجمعها، فهي أشتات من موضوعات نحوية جاءت نتيجة تنوع الأحاديث البخارية المختارة، وربما تجتمع مسائل اللغة والصرف والنحو معًا.
_________
(١٤) شواهد التوضيح الورقة ٢٢ و.
(١٥) شواهد التوضيح الورقة "١٦ ظ" و"١٩ ظ".
1 / 17
وعلى سبيل المثال ضم البحث الخامس والستون سبع مسائل منها:
- استعمال "في" بمعنى باء المصاحبة،
- ومعنى الفعل "صُرَف" واشتقاقه.
- وحذف المجزوم بـ "لا" التي للنهى.
- ومجيء "مفعول" ولا فعل له.
وهذه مسائل في اللغة والصرف والنحو لا تربطها وشيجة، ولا تعود إلى باب واحد من أبواب العربية، بل ترجع إلى أبواب متعددة.
وأدى ذلك إلى تبعثر مسائل الموضوع الواحد، وتشتيت المادة النحوية في أبحاث عدة، فالناظر إلى المسائل الخاصة بحروف الجر ومعانيها يجد أنها درست في البحث الثامن عشر والحادي والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن والأربعين والخامس والستين والسابع والستين والتاسع والستين.
وقل مثل هذا فيما يتعلق بموضوع الشرط والجواب والعطف والضمائر والاستثناء والأحرف المشبهة بالفعل، وغيرها مما تفرق بيانه في أبحاث الكتاب. (١٦)
وحاول المؤلف أن يربط بين موضوعات الكتاب، فكان يشير أحيانًا إلى المباحث المتقدمة دون أن يكرر ذكرها بقوله (وقد تقدم الكلام على هذا) أو بما يشبهه. (١٧) وهذه طريقة علمية كان يحسن أن يسير عليها باطراد لكي يحقق الغرض من الاختصار الذي توخاه في الكتاب (١٨).
ولكني وجدته في أحيانٍ عدة يكرر شرح مسائل كان الأولى تجنب إعادتها ثانية.
ومن أمثلة المكرر عنده:
- تأنيث الضمير العائد على مذكر. شرحه في البحثين السابع والعشرين والحادي والاربعين
- وحذف همزة الاستفهام. تضمنه البحثان الثامن والعشرون والحادي والأربعون.
- وإفراد المضاف إلى المثنىّ وتثنيته وجمعه. يضمه البحثان الرابع عشر والسادس والستون.
_________
(١٦) شواهد التوضيح: الورقة "٧ و" و"٨ ظ" و"٢٨ و".
(١٧) شواهد التوضيح: الورقة ٨ و.
(١٨) ينظر وصف ابن مالك لكتابه بـ "المختصر" في الورقة ٨ و.
1 / 18
- واخلاء جواب "لو" من اللام. ذكر في البحثين الستين والسبعين.
- واستعمال "في" للسببية، ورد في البحثين الثامن عشر والتاسع والستين.
وتقودنا ظاهرة التكرار إلى بيان سمة اخرى برزت من خلال الشرح، وهى استطراد المؤلف وخروجه من مسألة إلى اخرى بسبب الشبه بينهما، حتى ولو كان الحديث الذي ذكره مشكلًا لا يمت إلى الثانية بسبب. وهذا واحد من الأسباب التي وسعت حجم الكتاب.
فمن ذلك انتقاله إلى الكلام على استعمال "إذا" بمعنى "إذ" بعد أن شرح استعمال "إذ" دالة على الاستقبال بمعنى "إذا" في قول ورقة بن نوفل (يا ليتني أكون حيًا اذ يخرجك قومك) (١٩)
وعندما يشير إلى تقدير "كان" في الحديث (ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث ...) يقول بعد ذلك (واشبه شى بحذف "كان" قبل "يسرني" حذف "جعل" ...). ثم يشرح الموضوع ويحتج له (٢٠).
وتكون استطراداته أحيانًا مختصرة وسريعة، كإشارته وهو يذكر التضمين في قول أبي بكر ﵁ (وما عسيتهم أن يفعلوا بى). فيقول (ونظير تضمين "عسى" معنى "حسب" تضمين "رحُب" معنى "وسع"، في قول من قال: "رحبكم الدخول في طاعة الكرماني"). (٢١)
ويتنبه أحيانًا على أنه خرج عن الموضوع المحدد، فيعتذر مستدركًا بأن المقام تطلب ذلك، كقوله وهو يشرح مسوغات الابتداء بالنكرة (وإنما ذكرت من القرائن ما يناسب "إذا" و"الواو" في كون النحويين لا يذكرونه، ولم أقصد استقصاءها، إذ لا حاجة إلى ذلك في هذا المختصر). (٢٢)
* * * * *
أما لغة الكتاب فهي لغة سهلة، بعيدة عن التكلف والتعقيد، تمتاز بالدقة في التعبير، والسلامة اللغوية، مع الاحترازات المتكررة، وتجنب التعميم في الأحكام، كقوله في اجراء المعتل مجرى الصحيح (ومن هذا على الأظهر قول النبى ﷺ: من أكل
_________
(١٩) شواهد التوضيح: الورقة ٢ و.
(٢٠) شواهد التوضيح: الورقة ١١ ظ:
(٢١) شواهد التوضيح: الورقة ٢٢ ظ.
(٢٢) شواهد التوضيح: الورقة ٨ و.
1 / 19
من هذه الشجرة فلا يغشانا). (٢٣) وقوله وهو يتكلم على "ربَ" (والتصحيح أنّ معناها في الغالب التكثير). (٢٤)
واستمع إليه وهو يقرر تعدي الفعل "شبه" إلى مشبه به ومشبه دون باء، فيقول (وقد كان بعض المعجبين بآرائهم يخطئ سيبويه وغيره من أئمة العربية في قولهم "شبه كذا بكذا" ويزعم أن هذا الاستعمال لحن، وأنه لا يوجد فى كلام من يوثق بعربيته، والواجب ترك الباء). ثم يقول (وليس الذي زعم صحيحًا، بل سقوط الباء وثبوتها جائزان. وسقوطها أشهر في كلام القدماء، وثبوتها لازم في عرف العلماء). (٢٥)
وقد دلّ الاستقراء على صواب هذا الكلام، ودقة قائله.
وهذه الدقة في عبارات ابن مالك هي التي جعلتها تقترب أحيانًا الي القواعد العامة، والقوِانين في أصول العربية. ومن هذه العبارات ما يأتي:
- (ولأن الشيء انما يجوز حذفه مع صحة المعنى بدونه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته) (٢٦)
- (جعل الكلام خبرًا بمعنى النهي جائز). (٢٧)
- (أكثر ما يجري المعتل مجرى الصحيح فيما آخره ياء أو واو). (٢٨)
- (إلا عدول عن الاتباع عند صحة السماع). (٢٩)
- (العامل لا يحذف ويبقى عمله إلا إذا اطرد ثبوته). (٣٠)
- (الحكم قد يستحق بجزء العلة) (٣١)
وخلاصة القول أن اسلوب المؤلف سليم واضح، ليس فيه غموض، ومسائله مفهومة في عرضها وأفكارها. ولكن الكتاب يفتقد المنهج العلمي الذي اعتدنا أن نلاحظه في كتب ابن مالك الأخرى، وليست كل مادته مطابقة لعنوانه "شواهد التوضح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح". وهو أقرب إلى "المجموع"
_________
(٢٣) شواهد التوضيح: الورقة. ٤ و.
(٢٤) شواهد التوضيح: الورقة ١٦ ظ.
(٢٥) شواهد التوضيح: الورقة ١٥ ظ.
(٢٦) شواهد التوضيح: الورقة ١ ظ.
(٢٧) شواهد التوضيح: الورقة ٤ و.
(٢٨) شواهد التوضيح: الورقة ٤ و.
(٢٩) شواهد التوضيح: الورقة ١٤ ظ.
(٣٠) شواهد التوضيح: الورقة ١٦ و.
(٣١) شواهد التوضيح: الورقة ٢٧ ظ
1 / 20
النحوي منه إلى الكتاب المنهجي، مع ما فيه من الفوائد الجليلة، والأراء الجديدة. وربما كان هذا الوصف يخامر ذهن مؤلفه وهو يقرر المسائل، إذ صرح في واحد من بحوثه قائلا (وقد تقدم في هذا المجموع الاستشهاد على وقوع ذلك بعد النهي) (٣٢)
الشواهد والاستشهاد في الكتاب
أجمع الذين ترجموا لابن مالك على أنه كان حريصًا على العلم وحفظه، كثير المطالعة، لا يكتب شيئًا من محفوظه حتى يراجعه في محله، وكان لا يُرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرئ. ويكفي دليلًا على ذلك أنه حفظ يوم وفاته ثمانية شواهد. (٣٣).
و(كان يضرب به المثل في دقائق النحو، وغوامض الصرف، وغريب اللغات، وأشعار العرب، مع الحفظ والذكاء، والورع والديانة، والتحري لما ينقله، والتحرير فيه). (٣٤)
وكانت له مشاركة في القراءات والتصنيف فيها. (٣٥)، وهو من الذين عنوا بالحديث الشريف في وقته. (٣٦) قال عنه السيوطي "ت ٩١١ هـ": (وكان أمة في الاطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فان لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، فان لم يكن فيه شاهد عدل الى أشعار العرب). (٣٧)
إن هذه الصلة الوثيقة بالتراث الأدبي الذي انكب على تدبره وحفظه، والتراث النحوي الذي خلفه السابقون مكنته من توسيع دائرة الاستشهاد؛ لأنه لم يقف عندما تركه النحاة الذين تقدموا عليه، بل أضاف شواهد كثيرة إلى ما عرف قبله.
ويستطيع القارئ أن يقف في كل صفحة من صفحات الكتاب على نصوص
_________
(٣٢) شواهد التوضيح: الورقة ١٩ ظ.
(٣٣) نفح الطيب، المقري ٢/ ٢٢٨ - ٢٢٩.
(٣٤) نفح الطيب ٢/ ٢٢٨.
(٣٥) طبقات الشافعية الكبرى، السبكي ٨/ ٦٧ وغاية النهاية، ابن الجزري ٢/ ١٨٠.
(٣٦) طبقات الشافعية الكبرى، السبكي ٨/ ٦٨.
(٣٧) بغية الوعاة ١/ ١٣٤.
1 / 21
من القرآن الكريم والحديث الشريف ومن أشعار العرب وأقوالها.
ومن خلال ذلك تتجلى قابليته المتميزة ومقدرته على استخدام هذه النصوص بطريقة نحن أحوج ما نكون إليها مادمنا نسعى إلى تيسير لغتنا.
وفيما يأتي عرض موجز للأنواع التي استدل بها على ذلك الترتيب:
القرآن الكريم وقراءاته:
استند ابن مالك إلى الذكر الحكيم في الاحتجاج للمسائل التي عرض لها، وتوجيه مشكل النصوص التي اختارها. وكان يهرع إليه ما وجد إلى ذلك سبيلًا، حتى بلغت شواهده وأمثلته مئة واثنتين وعشرين آية، منها خمس عشرة آية مكررة.
وهو يأخذ بظاهرها، ولا يؤثر التأويل والتقدير.
ومن أمثلة ذلك تجويزه استعمال "من" في ابتداء غاية الزمان، قال (وهو ما خفي على كثر النحويين فمنعوه تقليدًا لسيبويه في قوله: وأما "من" فتكون لابتداء الغاية في الأماكن). (٣٨)
واستدل بقوله تعالى ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾. (٣٩) وهو مذهب الكوفيين، وتأول البصريون "من أول يوم" على تقدير: من تأسيس أول يوم. (٤٠)
واهتمامه بالقراءات جعله يعتمد عليها بكثرة، إذ بلغ احتجاجه بها في خمسة وأربعين موضعًا، صرح بأسماء أصحابها في أربعين موضعًا.
ومن ذلك أنه أيد بقراءة حمزة من السبعة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ (٤١) بجر لفظ "الأرحام" جواز العطف على ضمير الجر بغير إعادة الجار، وهو مما منَعه البصريون ورفضوا شواهده. (٤٢)
ونظير هذا تجويزه نصب المضارع بعد الفاء في جواب "لعل". وهو مما لم يجوزه البصريون. (٤٣) وحجته في ذلك قراءة عاصم ﴿لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ
_________
(٣٨) شواهد التوضيح: الورقة "٢٠ و". وينظر كتاب سيبويه ٢/ ٢٢٤.
(٣٩) التوبة ٩/ ١٠٨.
(٤٠) ينظر المسألة ٥٤ من الانصاف لابن الأنباري ١/ ٣٧٠.
(٤١) النساء ٤/ ١. وينظر: شواهد التوضيح، البحث رقم ١٢.
(٤٢) ينظر المسألة ٦٥ من الانصات ٢/ ٣٦٢.
(٤٣) البحر المحيط لأبى حيان ١/ ٩٩ و٧/ ٤٦٥ والجنى الدانى، للمرادى في ص ١٢٩.
1 / 22