الفصل الأول
سأستعمل كلمة «الفن» في هذه الرسالة بأوسع معانيها، وهو أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما هذا الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الروحاني ونظرة الشاعر ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظرته إلى العالم على خطوتين؛ ففي الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث.
فانظر إلى العالم من داخل تكن فنانا، أو انظر إليه من خارج تكن عالما؛ انظر إلى العالم من باطن تكن شاعرا، أو انظر إليه من ظاهر تكن من رجال التجربة والعلم؛ انظر إليه وجودا واحدا حيا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ الخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضا، أو يعقب بعضها بعضا، تكن من أصحاب العقل النظري الذي يستدل النتائج ويقيم الحجة والبرهان ... ولك بطبيعة الحال - بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين - أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينا والعالم حينا.
هما نظرتان إلى الوجود مختلفتان: نظرة الفنان الذي يمس الكائنات بروحه - إذا صح هذا التعبير - ليقف عندها لأنه ينشدها في ذاتها، ونظرة العالم النظري الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزا من قوانينه ونظرياته؛ فالجزئية الواحدة تهم العلم من حيث هي مثل يوضح القانون، لكنها تهم الفنان لذاتها؛ هذه الزهرة هي عند عالم النبات ملتقى اجتمعت عنده طائفة من قوانين الطبيعة الحية؛ فهي مجموعة من خلايا تنشأ وتفنى على أسس كيميائية. وأما الفنان فينظر إليها كائنا واحدا متكاملا كما تبدو لعينيه؛ فالقوانين الكيميائية التي تتمثل في الزهرة وفي سواها هي بغية العلم؛ وبالتالي فهو لا يجعل لهذه الزهرة وجودا مستقلا خاصا بها؛ لأنها لا تعنيه إلا بمقدار ما هي مثل يساق لتلك القوانين. وأما الفن فيفرد الزهرة وحدها، ويقف عندها يتملاها ويخلطها بنفس الفنان كأنما هي امتداد لوجوده.
هذان عالم فلكي وفنان ينظران إلى السماء ونجومها في ليلة شفافة صافية، فيقول الفلكي: لا تحسب أن هذا النجم اللامع الذي تراه الآن قائم حيث تراه، بل هو حزمة ضوئية غادرت مصدرها الأصلي منذ أمد طويل، وقطعت المسافة في كذا عاما حتى جاءت آخر الأمر لمعة من الضوء عابرة كما تراها. وأما الفنان فلا شأن له بشيء من هذا كله، وما النجم عنده إلا هذا الكائن الحاضر المشهود، يملأ بين عينيه، وتهتز له جوانحه. ففي النظرة العلمية ترد الظاهرة إلى قانونها الذي يطويها طيا مع أخواتها، مستعينا في ذلك بأسباب المنطق العقلي من استقراء وقياس، وأما عند النظرة الجمالية فلا ترد الظاهرة إلى سواها، فهي عندئذ تكون المبدأ والمنتهى.
ولهذا كانت النظرة العلمية دائما بحاجة إلى تعليل، فإذا قلت عن حجر ألقي به في الفضاء إنه يسير بالسرعة الفلانية، وسيسقط في المكان الفلاني في اللحظة الفلانية، كان للسامع أن يسألك: كيف عرفت هذا؟ فتجيبه عندئذ بقانون الجاذبية، أو بما شئت من قوانين العلم الطبيعي. وأما في النظرة الفنية إلى الشيء فلا تعليل، فإن رأيت زهرة وأحببتها فقربتها إلى نفسك، لم يكن للسامع الحق في أن يسألك كيف ولماذا، ولو شاءت لجاجة السامع أن يلح عليك في أن تهديه إلى السر في حبك لهذه الزهرة بعينها، لم يكن أمامك سوى أن تشير له إلى جوانبها التي أعجبتك قائلا: انظر إلى لونها، وانظر إلى أوراقها، وهكذا؛ فأنت بهذا تلفت نظره إلى جوانب المرئي نفسه، دون أن تجاوز به هذا المرئي إلى قانون عام يشمله ويطويه.
وهذا نفسه هو الفرق بين النافع والجميل، فلو عرضت عليك شيئا لنفعه، كان لزاما علي أن أبين لك الأغراض التي من شأنه أن يحققها لك، فأقول لك مثلا: هذا القلم أفضل من ذلك؛ لأنه أدوم منه بقاء، وأوسع منه جوفا، فلست بحاجة إلى ملئه بالمداد إلا مرة في كل أسبوع، وهكذا. وأما إن عرضت عليك شيئا لجماله، فلا غرض هناك يحققه لك سوى أنه جميل وكفى؛ وهكذا ترى النظرة الجمالية إلى الأشياء بغير حاجة إلى تعليل وتبرير، فلا القانون الطبيعي يفسرها، ولا القانون الغائي يعللها.
نعم، إن جمال الشيء الجميل قوامه دائما نظام داخلي في الشيء تتسق به أجزاؤه وعناصره؛ فجمال القصيدة من الشعر هو آخر الأمر نسق باطني فيها ينتظم أطرافها ودقائقها، وهكذا قل في جمال اللوحة الفنية، وجمال التمثال، وغير ذلك، لكن هذا النسق الخفي الكامن في جسم الشيء الجميل إنما يتبدى مباشرة لرائيه، فإما أن يراه معك زميلك أو أن يغفل عن رؤيته، فلا تكون لك حيلة في الأمر، على خلاف القوانين العلمية بما فيها هي الأخرى من نسق ونظام؛ إذ إن المدار ها هنا على استدلال النتيجة من مقدماتها، لا على العيان المباشر، فإن اختلف عالمان على أمر، أشار كل منهما لزميله إلى طريقة استدلاله ، لينتهي إلى تصويبه أو تصويب نفسه حسبما تكون الحال.
والنظرة الفنية من شأنها - آخر الأمر - أن توحد العالم؛ وذلك لأنها، كما أسلفنا، نظرة العيان المباشر الذي يلمح في حدوسه الحسية علاقات تربط أطرافها، ونسقا ينتظم أجزاءها؛ ومن هنا كانت الفردية - أو قل: الكيان العضوي المترابط - شرطا أساسيا جوهريا في نتاج الفن كائنا ما كان؛ فلو كان موضوع الفنان زهرة أو إنسانا أو منظرا طبيعيا أو حالة وجدانية أو الكون كله دفعة واحدة، فالأساس واحد، وهو أن يصاغ الموضوع على نحو يبرز وحدته وفرديته؛ فليس كل تتابع للألفاظ قصيدة من الشعر، وليس كل تتابع للنغمات لحنا جميلا؛ إذ لا بد لهذا التتابع أن يجيء على نحو معين فذ فريد، بفضل العلاقات الداخلية التي يستحدثها الفنان بين أجزاء موضوعه بحيث تستقيم كلها في كائن واحد، ولعل هذا نفسه هو الذي يجعل القطعة الفنية - كائنة ما كانت - مستحيلة على الترجمة والتلخيص والوصف، فإذا أردت أن تدرك جمال صورة معينة، فلا مندوحة لك عن مقابلتها لتراها في بنائها كله مادة وعلاقات، وكذلك إذا أردت أن تدرك جمال قصيدة من الشعر أو غير ذلك من آيات الجمال.
الفصل الثاني
صفحه نامشخص