فأعجبت المرأة بتفكير عبد الرحمن وسعة صدره، وقالت له: «إن جندا أنت قائده جدير بأن يعود ظافرا منصورا.»
فلما سمع ذلك الإطناب، مال بيمناه إلى هانئ وألقى يده على كتفه، وقال: «هذا هو يدنا اليمنى؛ لأنه قائد فرساننا.» فخجل هانئ لهذا الإطراء وأراد أن يعتذر وإذا بالرسول قد دخل وهو يقول: «الأمير بسطام بالباب.»
فقال عبد الرحمن: «فليدخل.»
فدخل بسطام وعباءته مطلقة من الأمام، وسيفه يجر وراءه، وعمامته مع صغرها منحرفة من جانب رأسه إلى الأذن، وفي يده عنقود من العنب كان يأكله في أثناء الطريق فلما رأى نفسه في حضرة الأمير تراجع ورمى تلك البقية، وعاد وفي مشيته تيه وإعجاب، ولكنه مع ذلك لم يكن يستطيع مخاطبة عبد الرحمن إلا بالاحترام؛ لأنه لم يكن يسمع منه إلا كل ما يطيب خاطره ويدعوه إلى احترامه لما قدمناه من حسن سياسة عبد الرحمن ورقة جانبه وربما توهم بعضهم أن الرياسة إنما يتأيد نفوذ صاحبها بالغلظة والكبرياء وشدة الوطأة، ولكن ذلك من الأوهام الباطلة؛ لأن الرئيس الشديد الوطأة قد يملك ألسنة مرءوسيه وأما الوديع الرقيق الجانب فإنه يملك قلوبهم ورقابهم، فلما دخل بسطام حيا، فبش له عبد الرحمن ودعاه للجلوس، فجلس وهو يجيل نظره في أطراف الخيمة، فرأى مريم وهانئا فتوهم لأول وهلة أنه دعي لأمر يتعلق بهما، ثم سمع عبد الرحمن يخاطبه قائلا: «دعوناك يا أمير لنسألك عن أمر يهمك كما يهمنا؛ لأن المصلحة واحدة، وهي رفع منار الإسلام وتأييد كلمة الله.»
فانشرح قلب بسطام لهذا الإطناب؛ لأن العرب لم تكن تعامل البربر إلا معاملة الموالي كما تقدم، فلما سمع بسطام ذلك الكلام قال: «يأمر الأمير بما شاء، وله ما يرضيه مني فإني أطوع له من بنانه.»
قال عبد الرحمن: «بورك فيك، ونفع الله المسلمين بسيفك، أما الأمر الذي استقدمناك لأجله، فهو أن بعض نصارى هذه المدينة يشكون مما أصاب بيعتهم من النهب، وهم كما لا يخفى عليك أهل كتاب قد أوصانا الله برعايتهم وبحرمة كنائسهم وبيعهم، وخصوصا أننا في أحوال تقضي علينا بمحاسنة أهل هذه البلاد حتى يهون علينا الفتح، ونحن سائرون إلى بلاد أمنع ورجال أشد من أهل هذا البلد، فإذا اعتقدوا فينا الرفق والعدل ساعدونا، ولذلك كنت كثيرا ما أوصيكم بالإغضاء عن أماكن العبادة على يد أخينا الأمير هانئ، فإذا كنت على بينة من أمر كنيسة بوردو ونهبها أرجو أن تسعى في رد ما نهب من آنيتها وأدواتها.»
الفصل العاشر
العرب في أسر الإفرنج
فقال بسطام: «لا أنكر على الأمير سداد رأيه في هذا الشأن، وقد كنا إلى اليوم نرعى هذه القاعدة ونحترم البيع حتى رأيت في هذا الصباح أمرا اقشعر له بدني ولم أتمالك عن الانتقام بنهب تلك الكنيسة رأيت في بعض منازل هذه المدينة رجالا من المسلمين وغلمانا ونساء يستخدمهم أهلها استخدام العبيد الأرقاء نعم لا أنكر حقهم في ذلك؛ لأننا نفعل بأسراهم مثل هذا الفعل، ولكني رأيت بعض الأسرى المسلمين مقيدين بالأغلال الحديد في أرجلهم والأحمال الثقيلة على ظهورهم، وقد ساقوهم إلى العمل في الكروم سوق الدواب فلم أتمالك عند مشاهدتي هذه القسوة من الانتقام بنهب كل ما تقع يدي عليه ولم أستثن كنيسة ولا ديرا.»
فلما بلغ بسطام إلى هذا الحد، التفت عبد الرحمن إلى المرأة كأنه يسألها عن ذلك، فقالت: «لا أنكر على مولاي أن معاملة الإفرنج لأسراهم من العرب أكثر قسوة من معاملة المسلمين لأسراهم من الإفرنج، وإن تساوى الفريقان في اعتبار الأسرى ملكا للغالبين يبيعونهم بيع السلع، ومتى دخل الأسير في حوزة مالكه استخدمه فيما ينفعه من فلاحة أو زراعة أو خدمة، ولا يزالون عبيدا هم وأولادهم إلى سلالات عديدة حتى يفتديهم أهلهم أو أصدقاؤهم بالمال أو غيره، أما المسلمون، فإن رجوع الأسرى إلى الحرية عندهم أسهل مما عند الإفرنج، وأما تقييدهم بالسلاسل فالغرض منه - على ما أظن - هو منعهم من الفرار وربما حاولوه مرة ولم يظفروا، فأثقلوهم بالأغلال ليمنعوهم منه.»
صفحه نامشخص