قالت: «أظنك تعلم ما أعلمه من هذا القبيل، ويكفي ما شهدته الآن بنفسك ما بين هانئ وبسطام ألم يكد يسفك الدم بينهما من أجل هذه الفتاة؟» وأشارت إلى مريم وكانت جالسة بجانب والدتها تسمع حديثهما باهتمام وشوق، كأنها لم تكن تعرف منه شيئا.
فلما سمع عبد الرحمن كلام المرأة تشاغل بإصلاح شاربه، وحك عثنونه بين سبابته وإبهامه، وظهر التأثر في عينيه وجبينه، والتفت إلى المرأة وهو يحاذر أن يتنهد وقال: «إن ما رأيته إنما هو من قبيل المنافسة بين أميرين على سبية جميلة، وليس ذلك بالأمر الغريب.»
فضحكت ضحكة مصطنعة، وقالت: «الأمير عبد الرحمن الغافقي لا يجهل أن سبب هذه المنافسة إنما هو فساد نيات الأمراء فيما بينهم لاختلاف أغراضهم في هذه الحملة؛ لأن أكثرهم جاءوا للنهب والسلب وخصوصا البرابرة ومن على شاكلتهم فهؤلاء لا يفهمون معنى الجهاد أو الفتح، ولا يعرفون ما هو الإسلام؛ لأنهم إنما انتموا إليه رغبة في الغنائم، ومن كان هذا غرضه لا يهمه إذا رضي أهل البلاد أو غضبوا يدلك على ذلك ما رأيته بنفسي في أثناء هذا الفتح اليوم، فإن بعض رجالكم لم يميزوا بين المنازل والكنائس ولا بين الرهبان والعامة، فقد نهبوا كنيسة بوردو وهي من أعظم كنائس الغاليين، فأصبح هؤلاء فضلا عن نفورهم من المسلمين يعتقدون أن صاحب هذه الكنيسة سينتقم لهم منكم.»
فلم يتمالك عبد الرحمن عن قطع حديثها، فقال: «نهبوا الكنائس؟ نهبوها؟ رغم ما أوصيتهم به من المحافظة عليها وعلى كرامة القسس والرهبان.» ثم صفق وصاح: «يا غلام.» فدخل رجل من غلمانه الذين يقفون ببابه، خفيف اللباس خفيف العضل ممن يقتنونهم للمراسلة ونحوها فابتدره حال دخوله قائلا: «ادع الأمير هانئا الساعة.»
فأشار الغلام إشارة الطاعة وخرج، فعجلت المرأة بالكلام قبل خروجه وقالت للأمير: «فاتني أن أطلب إليك الإفراج عن خادمي، فإنه أخذ في جملة الأسرى على شيخوخته وبرغم أنه عربي.»
فنادى عبد الرحمن الغلام فوقف، فقال له: «وقل للأمير هانئ : إن بين الأسرى شيخا.» والتفت إلى المرأة، وقال: «وما اسمه؟» قالت: «اسمه حسان.» فقال: «قل للأمير إن بين الأسرى شيخا عربيا اسمه حسان فليأت به معه.»
ولا تسل عن مريم عندما سمعت اسم هانئ، فإنها أحست بنبضات قلبها تسرع بغتة وكانت جالسة مطرقة فتحركت واعتدلت في مجلسها، ولو انتبه عبد الرحمن لوجهها لرأى فيه احمرارا يشف عن عاطفة قلبية ظهرت آثارها في بريق عينيها.
قضوا مدة غياب الرسول صامتين وخصوصا عبد الرحمن، فإنه لبث مطرقا وهو يلاعب لحيته بين أصابعه ببطء، كأنه يخشى من العجلة أن يضطرب لها حبل أفكاره فتقطعه أو تعترضه، وسكتت المرأة تهيبا لمنظر عبد الرحمن وبعد قليل سمعوا وقع حوافر جواد، ثم سمعوا صهيله، فعرف عبد الرحمن أنه صهيل جواد هانئ وأن هانئا قادم، ولم تمض هنيهة حتى دخل ذلك الغلام، وقال: «إن الأمير هانئا بالباب.»
فقال عبد الرحمن: «فليدخل.»
وقبل أن يرجع الرسول بالإذن، أقبل هانئ كأنه يدخل بيته وذلك للدالة التي كانت له على الأمير، وكان لا يزال بثوبه الأحمر وسيفه المرصع وسائر سلاحه، فلما رآه عبد الرحمن داخلا بش له ورحب به ودعاه إلى الجلوس بجانبه، فجلس وهو يحدق في مريم ووالدتها، ولكنه تشاغل بالالتفاف بعباءته وهو يصلح مجلسه أما مريم فإنها أطرقت حياء وعيناها تسترقان النظر إلى هانئ، وترمق كل حركة من حركاته، ودخل في أثر هانئ شيخ طاعن في السن عليه لباس أهل غاليا، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وقد شاب شعره مع كثاثة، واسترسلت لحيته كثيفة، وخف عضله وتغضنت جبهته، وتجعد خداه ورقبته حتى ليتوهم الناظر إليه أنه في سن التسعين، وإذا تكلم أو مشى أوهمك لخفة حركته وشدة عارضته أنه فيما دون الستين، فدخل الخيمة وعليه قباء إلى الركبة بعضه مبطن بالجلد، وأما ساقاه فكانتا عاريتين وقد غشاهما شعر كثيف لا يظهر الجلد من تحته، وقد شد بقدميه نعلين من صنع بوردو، ووقف الشيخ بباب الفسطاط، فلما رآه عبد الرحمن أشار إليه أن يجلس فجلس هناك متأدبا، أما هانئ فلما جلس قال له عبد الرحمن: «أظنك تعبت في هذا اليوم يا هانئ.»
صفحه نامشخص