شارل وعبد الرحمن

جرجی زیدان d. 1331 AH
146

شارل وعبد الرحمن

شارل وعبد الرحمن

ژانرها

وكان الفرسان يحسبونها رجلا، فلما تبينوا أنها فتاة وشاهدوا جمالها وهيبتها مع تلك البسالة والغيرة، خيل لهم أنها ملاك نزل من السماء لنصرتهم، فتحمسوا وثبتوا في هجومهم، وصمموا على التفاني تحقيقا لندائها ونداء هانئ، ولكن الظلام فصل بين الجيشين فنفخ في الأبواق فتراجع كل منهما إلى معسكره.

الفصل الثامن والسبعون

بعد المعركة

فلما تراجع الجيشان تحول هانئ إلى مكان عبد الرحمن فلم يجده، فسأل عنه فلم ينبئه أحد بخبره ، فأركض فرسه للبحث عنه هنا وهناك فلم يقف له على أثر، فأمر فرسانه بالرجوع إلى أماكنهم وترجل هو ومريم عن فرسيهما وجعلا يطوفان ميدان المعركة يتفحصان القتلى على نور الشفق، ثم طلع القمر فأضاء تلك البقعة المغطاة بجثث الناس وفيهم الميت والجريح والعاجز، وبينهم الأفراس في نحو ذلك بين صهيل وشخير وأنين وزفير، فتفقدا كل مكان فلم يجدا عبد الرحمن، وإذا هما بصهيل يشبه صهيل فرسه عن بعد فأجفلا واستبشرا، فالتفتا إلى أطراف تلك الساحة، فرأيا في أحد جوانبها مما يلي الجنوب فرسا واقفا وهو يصهل ويفحص الأرض، فصاح هانئ: «هذا فرس الأمير.» وأسرع إليه ومريم تتبعه حتى وصل إلى الجواد فرآه واقفا وأمامه شبح ملقى، عرفا أنه عبد الرحمن، فأسرع هانئ إلى يده يجسها فإذا هو جثة هامدة، وقد استلقى على ظهره وبسط ذراعيه وعيناه شاخصتان نحو الشرق كأنهما تستقبلان نور القمر عند طلوعه، وشاهدا سهما مغروسا في عنقه فعلما أنه سبب وفاته، فجثا هانئ عند رأسه وصاح: «وا أسفاه عليك يا أميري ووالدي ويا أخي ويا نصيري، بل يا نصير المسلمين، ولكنك فزت بجنات النعيم؛ لأنك قتلت مجاهدا فعسى أن ألحق بك عاجلا.»

وكانت مريم واقفة تنظر إلى تلك الجثة وتأسف لقتل ذلك القائد، لكنها كانت تتعزى ببقاء هانئ حيا وترجو له النصر، فإذا فاز بالفتح أصبح أكبر قواد ذلك الجند، وقد نفر سمعها من تمنيه اللحاق عاجلا بعبد الرحمن، فقالت: «دعنا من الندب فإنه يليق بالنساء، وهلم بنا إلى المعسكر ندبر شئون الجند قبل الفشل، وإذا فزنا في الغد - ونحن الفائزون إن شاء الله - ففي ذلك تعزية عن كل خسارة.» فاستصوب هانئ قولها وقال: «فلا بد لنا من دفنه.»

قالت: «متى وصلنا إلى المعسكر أرسلنا من يأتي بالجثة ثم تصلون عليها وتدفنونها.» قالت ذلك ومشت وهي لا تزال مسترسلة الشعر مكشوفة الذراعين لا تبالي بما في صفاء ذلك الليل من برد الخريف، ومشى هانئ والسيف يجر وراءه وقلبه في شغل تتنازعه عوامل الفشل والأسف والأمل، وتظلله غياهب الحب والوجد، ومريم تسير إلى جانبه وهي في مثل حاله، وقد وليا وجهيهما نحو المعسكر وساحة المعركة إلى يمينهما ومعسكر أود إلى يسارهما وليس في تلك الساحة أنيس، ولا يسمعان فيها غير الأنين والزفير، وربما شاهدا بعض العبيد يبحثون في الجثث يلتقطون ما بينها من سلاح أو آنية أو حلي، ولاحت من هانئ لفتة إلى جثة بين يديه عليها ملابس الإفرنج كاد يتعثر بها فأراد أن يعرج عنها فرأى في وجهها شيئا يعرفه، فتفرس فيها فإذا هي جثة رودريك، فبغت وقال: «ألا تعرفين هذا الوجه يا مريم؟»

فنظرت إليه وقالت: «كلا.»

قال: «هذا رودريك حفيد حسان، وكان قد حمل إلينا بالأمس رسالة من والدتك أنبأتنا فيها بأمور كثيرة عن أحوال هذا الجند ساعدتنا على حربهم اليوم، وأخبرنا أنها عند أود في خير وإكرام، ثم عاد مسرعا إليها لعلها تحتاج إليه في مهمة أخرى، فما الذي جاء به إلى هنا يا ترى حتى قتل؟»

فصاحت مريم: «أرى في يده شيئا كالكتاب أظنه رسالة من والدتي.»

قالت ذلك ومدت يدها لإخراج الكتاب من قبضته، فلم تستطع كأنه قابض عليه بقوة، فارتعشت جوارحها؛ لأنها تصورت الرجل حيا، فتقدم هانئ ونزع الكتاب بعنف وهو يقول: «يظهر أنه مات منذ هذا الصباح.» وناول الكتاب لمريم وهو لفافة من جلد فصاحت: «رسالة! رسالة من والدتي فلنقرأها!»

صفحه نامشخص