فلوسيب - أو لوسيبوس أيضا - لا يعلم عنه شيء كثير، والظاهر أنه أبو مذهب الجواهر الفردة، وإن يكن الفيلسوف أنكزاجوراس قال قبله بوجود بذور أولى أو دقائق مادية متساوية لا عداد لها، وهذا المذهب الجوهري له شأن عظيم في العلوم الطبيعية، ولا يزال حتى اليوم وقد تعاظم جدا.
فيوجد على رأي لوسيبوس: «فراغ تتحرك فيه منذ الأزل دقائق لا تدرك بالحواس لا عداد لها، والأشياء تظهر وتختفي بحسب ما تجتمع هذه الدقائق أو تنفصل، وهي لا تتجزأ ولا تتلاشى.»
وأما تلميذه دموقريط فأشهر منه وتعليمه أن الدقائق منتشرة بسيطة لا تتجزأ أزلية تفوق الحصر، ولا تدرك لصغرها، وقد شبهها بالغبار الموجود في الهواء، والذي لا يدرك عادة، ولا يظهر إلا في شعاع الشمس، ومن اتحاداتها المختلفة تتكون سائر المواد من جماد وحي. واختلاف المواد متوقف على اختلاف هذه الدقائق أو الجواهر في العظم والصورة والوضع، وهي منفصلة بعضها عن بعض بمساحات فارغة أكبر منها، ولها - بعضها بالنظر إلى البعض الآخر - حركتان: حركة دائرة وحركة اصطدام مستقيمة. وعدد العوالم لا نهاية له كسعتها، ولا تزال تتولد عوالم وتتلاشى عوالم. والنفس مركبة من جواهر فردة لطيفة جدا كروية، شبيهة بجواهر النار تولد حرارة الجسد، ولكل جسد نفس وحرارة معينة. والنفس لا تنفك تطلب الانفصال عن الجسم إلا أنها ممنوعة عن ذلك بتصعد التنفس، فإذا وقف التنفس وقع الموت.
ولدموقريط مذهب فيما خص إدراك الحواس خاص به، قال: «النفس تتأثر وحركاتها الأفكار، ولكن الأفكار لا تحصل إلا عن انفعال جسدي أو عن إدخال صورة جسمية إلى النفس. وهذه الصور المنبعثة من كل جسم تدخل النفس، وتؤثر فيها عن طريق الحواس، وتأثيرها في النفس غير مطابق لطبيعة الأشياء؛ إذ لا تدرك حقيقة الجواهر، والجواهر وحدها حقيقة، فإننا نرى الألوان ونسمع الأصوات ... إلخ، حيث لم يكن يلزم أن ندرك إلا صورا هندسية. فلا يصح الاكتفاء بإدراك الحواس، بل يلزم الاعتماد على العقل أيضا. والآلهة كذلك ليسوا سوى جواهر فردة متجمعة، والفرق بينها وبين الإنسان أن جواهرها أقوى وأكثر حياة من جواهر الإنسان. والنفس ليست خالدة؛ لأنها مؤلفة من جواهر محترقة، فإذا حصل الموت انحلت هذه الجواهر وصارت جواهر نار.»
وهو كبارمنيدس وضع هذه القاعدة: «لا شيء من لا شيء ولا يتلاشى شيء.» وهذه القاعدة الأخرى أيضا وهي أهم: «كل شيء بالاضطرار لا بالاختيار.»
وأدب دموقريط بسيط جدا، فهو يقول: إنه يلزم عمل الفضيلة؛ لأن الفضيلة تجلب السعادة. وهذا شأن أكثر الأقدمين فإنهم يعتبرون أنه يلزم عمل الخير لا خوفا من شيء؛ بل لأنه واجب. وإنه يلزم أن يخجل الإنسان من نفسه لا من غيره، فالحياة التي لا قلق فيها ولا غم أكبر سعادة في الأرض.
وقد كان لدموقريط شيخوخة طويلة وهنيئة، وعاش جليل القدر عند الناس طول حياته. وقد عرفوا فضله وغزارة معارفه، ولا سيما في الطب، فيظهر أنه كان طويل الباع فيه. والنصائح التي وضعها فيما ينبغي أن تصرف الحياة فيه لا تدل على سعة اختباره فقط (لأنه صرف كل ماله في صباه على السياحة حبا بالعلم)؛ بل على ما له من الوقار أيضا. وفي فلسفته من الدقة والارتباط والتحديد ما لا يوجد في فلسفة من تقدمه من الفلاسفة، وهي أقرب منها إلى العلم اليوم، وهذا صحيح:
أولا:
في مذهبه الجوهري الذي يشبه مذهبنا في الجواهر بجميع الأمور الجوهرية، والفرق بيننا وبينه أن الجواهر عنده ليس لها إلا أشكال هندسية مختلفة، وأما عندنا فالاختلاف بينها بالصفات الكيماوية. وهو ينسب لها حركة أولى، وأما حركتها عندنا فمن تضاد قوتي الجذب والدفع اللتين نعتبرهما غريزيتين في الجواهر. وجواهرنا أصغر جدا من جواهره التي يشبهها بالغبار المنير في الهواء.
13
صفحه نامشخص