8
وأحق ما يؤاخذ دارون به كونه لم يعبأ كثيرا بما للأحوال الخارجية
9
ولاختلافها من الفعل الشديد في تغيير الأحياء، ولقد مر بنا في المقالة السابقة أن دارون كثيرا ما يذكر هذه الأحوال الخارجية، إلا أنه لا يجعل لها فعلا إلا مع «الانتخاب الطبيعي»، وما ذلك إلا تفصيلا لمذهبه لكي يجعل له المقام الأول، على أن فعلها الخصوصي عظيم جدا في الواقع، ولا بد من التسليم بأن أحوال سطح الأرض المتغيرة على الدوام تؤثر تأثيرا شديدا في تحويل الأحياء، ولا سيما إذا اعتبرنا ما بين القارات من الاختلاف العظيم في الشكل وغيره، وهذا الفعل كان شديدا جدا حيث شاركه مهاجرة الحيوان والنبات. واعلم أن المهاجرة تكاد تتناول الأجسام الحية كافة. وأسبابها إما القحط، أو إزاحة نوع لنوع آخر، أو اختلاف في الإقليم، أو التربة، أو غير ذلك. وقد تكون المهاجرة اتفاقية غير إرادية كانتقال بزور النبات من مكان إلى آخر، بواسطة المياه، أو الرياح، أو الطيور وما شاكل.
فالأحوال الخارجية قد تتغير تغيرا كليا وبغتة بسبب المهاجرة، وتؤدي غالبا إلى نتائج غريبة،
10
فإن الأصل الإنكليزي قد تغير جدا في أميركا وأوستراليا في مدة قصيرة على نوع ما، بحيث إن الفرق اليوم بين الإنكليزي والأميركاني والأوسترالي ظاهر. وإذا أردنا معرفة هذه النتائج في المدد الطوال، فعلينا بالنظر إلى الشعوب الهندية الجرمانية التي هاجرت من آسيا - بين نهر الكنج وجبال حملايا - إلى أوروبا؛ فإنه قد تقرر بالأبحاث الفيلولوجية أن الأسوجيين والهنود الآريين ذوو أصل واحد، فسائر أعضاء هذه العائلة الآرية الكبرى منشؤها الواحد في شرقي بحر قزيين أو الجنوب الشرقي منه، ولكن أي فرق اليوم بين رجل هندي وأسوجي أو نروجي! وكم تغير عبيد (سود) أفريقيا تغيرا حسنا بنقلهم إلى أميركا، فإن جلدهم أشرق لونه، وعقلهم زاد إدراكه وتنبهه. على أن الأسود في مذهب دارون لا يصير أبيض وبالعكس؛ لأنهما ليس بعضهما من بعض، بل كل منهما آت من صور بين بين لا عداد لها تختفي أصولها في أصل عالم الحيوان.
ولنا - بقطع النظر عن المهاجرة المهمة - حوادث ظاهرة تبين ما للأحوال الخارجية من الفعل الخاص في تكوين الأحياء وتحولها؛ فإن في قارة أوستراليا المتميزة عن باقي القارات بأحوال خصوصية من حيث الإقليم والتربة والهواء وغير ذلك حيوانات ونباتات خصوصية ذات أشكال غريبة غالبا.
فأشجارها شائكة لا خضرة فيها، ذات أوراق صفراء رقيقة متجهة عموديا، لا تحجب نور الشمس. وفي أميركا الجنوبية القيمان
11
صفحه نامشخص