30
هكسلي.
المقالة الثانية
لقد تقدم الكلام في المقالة السابقة على مذهب دارون، وما يترتب عليه على سبيل الاختصار. وما قيل فيها لا بد من أن يرسخ تأثيره في رأس كل عاقل. على أن الاعتراضات على هذا المذهب كثيرة، وقد عرفها دارون نفسه فأفرد لها قسما كبيرا من كتابه، ولم يبسطها كذلك إلا لينفيها بماله من سعة الاطلاع ودقة النظر، ولكي يبين أيضا صحة مذهبه بمزية التحقيق وفضل التدقيق. ولقد أظهر من خلو الغرض ما لا شك في أنه لم يقصد به سوى معرفة الحقيقة.
وإنه ليطول بنا الشرح إذا فحصنا كل الاعتراضات التي اعترض بها عليه أو اعترضها هو على نفسه، فنقتصر على واحد منها فقط هو أهمها جميعا؛ لأنه يظهر في أول الأمر أن نفيه غير ممكن، وهو غير الاعتراض اللاهوتي الذي لم ينفه دارون نفيا صريحا، بل أراد تقليل قيمته بجعله الخلق المحصور في بضعة أصول قابلة كل تغير لاحق من نفسها أولى بحكمة الخالق وعظمته. ولا حاجة إلى القول أن مثل هذا التعليل ساقط من نفسه، وكان في إمكان دارون الاستغناء عنه، لولا أنه راعى حاسات مواطنيه الدينية؛ لأن قاعدة مذهبه الصدفة العمياء، وكله قائم على أفعال طبيعية لا شيء من القصد فيها، وهو أعرق في المادية من مذهب لامرك؛ لأن لامرك يسلم بناموس للارتقاء عام، وأما دارون فإن ارتقاء الأحياء عنده متوقف على تجمع تدريجي في الأفعال الطبيعية العارضة الضعيفة التي لا تحصى.
فاعتراضنا إذن علمي لا لاهوتي، وهو مهم جدا؛ لأنه إذا صح ولم ينف ألم ليس فقط بمذهب دارون وحده، بل بسائر مذاهب التحول أيضا، ولا سيما ما تعلق منها بالإنسان لتعيين مقامه في الطبيعة وفي عالم الحيوان، وهو: إذا صح أن الأحياء تكونت بالتحول بعضها عن بعض رويدا رويدا، فلا بد من أن كان بينها صلة تدل على انتقالها؛ أي من صور بين بين، وكان ينبغي أن تلتقي هذه الصور في الأرض، فلماذا لم يكن بينها ذلك؟ وإذا كان فلماذا لم يوجد؟
فنقول: إن لنا على فساد هذا الاعتراض ثلاثة أجوبة: أحدها أنه تعلم صور كثيرة متوسطة، وكل يوم تلتقى صور جديدة أيضا، ولا سيما من الحيوانات الصدفية المحفوظة أحسن من سواها من رتبتها الدنيا لغشائها الحجري أي الكلسي؛ ولذلك كان ترتيبها في سلسلة تحولها أسهل أيضا. ولنا الآن سلسلة طويلة من الأصداف المعروفة يختلف طرفاها جدا بحيث يستحيل الجمع بينهما، لولا ما بينهما من الصور المتوسطة الدالة على بطء التحول.
1
وما كان لا يزال ناقصا من هذا القبيل قد كمل بما وجد في الطبقات المكتشفة حديثا في الأرض؛ فإنهم قد وجدوا في هذه السنين الأخيرة بالبحث في طبقات هلستاد وسان كسيان في منحنى جبال ألب النمساوية الجنوبي والشمالي بين الأراضي الثنائية، والأراضي الثلاثية المتوسطة عالما من الحيوانات البحرية مؤلفا من نحو ثمانمائة نوع، ملأ دفعة واحدة فراغا واسعا. ولا ريب أن مثل هذه الاكتشافات لا يزال لازما لنا كثيرا، ولا يخفى أنهم قبل دارون لم يكونوا يعبئون كثيرا بالتنوعات كأن ليس لها معنى، وأما اليوم فصاروا يعتنون بها ويعرفون قيمتها.
وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهها الحقيقي، نجد أن لا فرق أيضا بين الحيوانات العليا كذوات الثدي مثلا، والحيوانات الرخوة البحرية من هذا القبيل؛ فإن المموث - أي الفيل الأول - ليس إلا منتهى سلسلة طويلة لا تتضمن أقل من 26 نوعا من الفيلة الأولى. وهذه الصور الانتقالية تصل بين المستودنت (نوع من الفيل يمكن تتبع أصله إلى الدور الثلاثي) وفيلنا الحالي، وهكذا يمكن تتبع أصل الرينوسروس أي الكركدن ذو القرن الواحد الموجود، حيث يوجد الفيل إلى أجداده الأول، وقد اكتشف المشرح الإنكليزي «أون» عدة صور أحفورية متوسطة بين المجترات والصفاقية الجلد، بحيث إن المسافة البعيدة التي تفصل الجمل عن الخنزير مثلا قد انتفت.
صفحه نامشخص