واعلم أن فعل الوراثة في الحياة الجنينية أظهر منه في سواها؛ فإن في الجنين في الأدوار الأولى من حياته شقوقا على كل جانب من عنقه، شبيهة بالأصداغ التي تتنفس بها ذوات الفقر الدنيا التي لا رئة لها، والشرايين تنعكس على نفسها لتتصل بها، كأن التنفس الصدغي مزمع أن يصير، ثم يتغير هذا التكوين ويتحول إلى سواه. والرئة نفسها في أعلى ذوات الثدي ليست إلا النفاخة التي يعوم بها السمك، ولكنها نامية ومركبة أكثر منها. والتنفس في اللابيدوزير الذي هو بين السمك والحشرات في التكوين قائم بالأصداغ والرئتين معا، ويرى فيه واضحا أن الرئة ليست سوى نفاخة مفصولة بحواجز كثيرة جدا، ومفتوحة إلى الفم. ومبدأ التكوين الجنيني واحد، فإن جميع الحيوانات المختلفة تتشابه بعضها مع بعض في أول درجات الحياة الجنينية، وتنشأ جميعها من صورة واحدة أولية. قال الشهير باير أستاذ علم الأجنة: إن أجنة ذوات الثدي والطيور والجرذان والأفاعي والسلاحف - أي طوائف الحيوان المتباعدة - تتشابه في أولها، وليس بينها فرق إلا من جهة الكبر، ويقول أيضا: إن هذه المشابهة قد تبقى حتى أول ظهور الحياة. ويرى أكثر من ذلك أيضا، فإن جنين أعلى ذوات الفقر كالإنسان يمر في نموه بدرجات الحيوانات التي دونه، ليس الحية فقط، بل الأحفورية أو السابقة أيضا. وأغاسيز وهو من خصوم دارون يقول أيضا ما نصه:
إنه لأمر يسوغ لي التصريح به الآن على سبيل الإطلاق أن أجنة جميع الحيوانات الحاضرة وصورها مهما كانت رتبتها، هي الصور الحية المصغرة لأصولها الأحفورية.
فهذه الأشياء لا تتفق مع المذهب القديم؛ أي مذهب الخلق إذ لا معنى لها فيه، بل هي منافية له أيضا، وربما عبثت بعلم اللاهوت. وأما على مذهب دارون فمعناها واضح، وهي من أعظم الأدلة على صحته، وبدونه يستحيل علينا أن نفهم لماذا الإوز الذي لا يعوم له غشاء بين أصابع رجليه، ولماذا كان في الأجسام الحية أعضاء زائدة، بل مضرة أحيانا، ولماذا هذا التشابه بين الأحياء كما يعلم من تشريح المقابلة، ولماذا هذه الوحدة في التكوين الجنيني، وما معنى الأعضاء الأثرية. فلو لم تكن الأحياء مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا جوهريا من أدناها إلى أعلاها، لما اقتضى أن يكون بينها ذلك.
على أن دارون لم يحصر الأحياء في أصل واحد، وربما كان ذلك لعدم جسارته لا لسبب آخر، فجعل الحيوان من أربعة أو خمسة أصول أولى مخلوقة منذ زمان طويل كل أصل زوج، وكذلك النبات. غير أنه لم يصمت عن ذلك كليا، بل قال في آخر كتابه:
إن المشابهة وأسبابا غيرها كثيرة تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد ... وأن لا فاصل جوهري بين العالمين؛ عالم النبات وعالم الحيوان.
غير أنه يحترس مستدركا على نفسه حيث يقول أيضا:
إني أرى فيما يظهر لي أن الأحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة، على أن أساس هذه النتيجة المشابهة، فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين.
فهذا القول غير قياسي، ويجعل المذهب ناقصا، وربما نقضه أيضا. وقد قام الأستاذ برن مترجم دارون ضده؛ لأنا إذا سلمنا بأفعال خلق خصوصية لثمانية أو عشرة أزواج أصلية، فما المانع من إطلاق هذا الخلق على جميع الأحياء؟ وما الداعي بعد ذلك لتفسير ظهورها على سبيل طبيعي؛ لأنه سيان عند الفيلسوف حصول الفعل الخالق مرة أو مرات، فالتسليم به ولو مرة إقامة المعجزة مقام الناموس الطبيعي. فليس لنا إلا أن نتوسع بمذهب التسلسل الذي وضعه دارون حتى آخره، ونجعل العالم العضوي يشتق من صورة واحدة أصلية بسيطة جدا من الكرية أو البييضة. قال برن: «كيف يسوغ لنا أن نستغرب هذا الأمر الذي نراه كل يوم بأعيننا؟ أليس الجسم العضوي حتى الأكثر كمالا كالإنسان يتكون رويدا رويدا من كرية واحدة أو البييضة؟» ا.ه.
فالنمو بالبيضة لا يقتضي له وقت طويل، ويتم في بضع ساعات أو أيام أو أسابيع أو أشهر، والبييضة حوصلة كروية صغيرة جدا مكروسكوبية غالبا، ومؤلفة من غشاء دقيق شفاف يتضمن مادة لزجة ومن نواة، وهذا الكل يؤلف أيضا نواة لحوصلة أخرى أكبر منها هي البيضة. ولا يسبق الفهم إلى بيضة الدجاجة، فإن بيضة الدجاجة والطير تختلف عن سائر البيضات، ولا سيما بيضة ذوات الثدي؛ لأن بيضة الدجاجة يحيط بها مح مغذ، ثم زلال، ثم قشرة؛ أي كل ما يلزم لتكوين حيوان جديد، وأما بيضة ذوات الثدي فليس فيها شيء من ذلك كله، بل يصلها غذاؤها مما جاورها من بدن الأم. وعليه، فكل جسم عضوي نباتا كان أو حيوانا منشؤه من بيضة، ونموه فيها بسيط بانقسام المادة اللزجة التي يتضمنها المح، فيتحول المح إلى جواهر عضوية تسمى كريات جبنية، وهذه الجواهر تتنامى وتتحول إلى جميع الصور الممكنة، وتكون الجسم الحي بإضافة كريات جديدة، فالعمل كله راجع إلى تنامي الكريات بالانقسام.
على أن الإحاطة بهذه المسألة من خصائص علم الأمبريولوجيا - أي علم تكوين الأجنة - وأما نحن فعلينا أن نعلم فقط أن جميع الأجسام العضوية منشؤها من أبسط الصور المعروفة؛ أي الكرية، وأن نموها كائن بانقسام هذه الكرية انقساما بسيطا جدا في ظاهره. وهذا النمو الفردي الذي نراه ونراقبه في كل أدواره جار على نفس ما هو جار عليه نمو كل العالم العضوي المتكون من كريات أولية، هي نفسها متكونة منذ ملايين من السنين في قعر البحار الأولى.
صفحه نامشخص