جـ- الحالة العلمية والفكرية والثقافية في عصره:
ظلَّت بغدادُ زُهاء خمسة قرونٍ العاصمةَ الروحيَّةَ والفكرية للمسلمين قاطبة ولكل الناطقين بلغة الضادِ، ينزِح إليها العلماء من أبناء الأوطان الأخرى يشهدون حلقاتها ودروس علمائها ومناظرات أدبائها ومحاورات ظرفائها، ومسابقات شعرائها، ومفاكهات أئمة المجالس فيها، وامتلأت مكتباتها ودور كتبها بذخائر علمية نفيسة، وأصبحت بغدادُ -بحق- دارة العلم وهالة الأدب -كما يقال- واستمرت على هذه الحال إلى أن وقعت فريسة في يد التتار في عام ٦٥٦هـ -كما قلنا- ففرقوا أهلها وقتلوا علماءها وشردوا من نجا منهم من القتل، وألقوا بكتبها في نهر دجلة.
وعندما اكتسح التتارُ الممالك الإسلامية خربوا الحضارات، وهدموا العمارات، وكانت هذه العمارات نتيجة حضارة قرون، وكانت الكتب التي ألقوا بها في نهر دجلة نتيجة ثقافة قرون، والحضارات والعلوم إنما تبنى على ما قبلها، وتؤسس على ما سبقها، وهي كالماء للنبات الغض فإذا حرم النبات الغض الماء ذبل وجف بعد قليل، وكذلك كان العلم والحضارة الإسلاميان، هذا فضلًا عما أصيبت به الثقافة من نكبات للعلماء، فإذا بقي شيء من العلم فقليل يكفى للتقليد ولا يبعث على التجديد١.
وبعد هذه الكارثة العظيمة التي حلت ببغداد وبخارى ونيسابور والري وسمرقند وبلخ، وغيرها من مدن العلم والأدب، انتقل العلم وانتقلت مراكزه إلى القاهرة، وأصبحت القاهرة خليفة بغداد، وعُقد لها لواء الزعامة الفكرية والثقافية منذ منتصف القرن السابع الهجري
_________
١ ظهر الإسلام: ٤/ ١٩٣.
1 / 17