اللف والنشر عند أهل العلم يقرب من السبر والتقسيم عند أهل الأصول، فإذا ذكرنا أكثر من شيء على سبيل الإجمال، ثم فصلنا هذه الأشياء على نفس الترتيب صار اللف والنشر مرتبا، وإن تحدثنا عنها مع الإخلال بالترتيب صار الترتيب غير مرتب، ويسميه أهل العلم المشوش، وجاء القرآن بهذا وهذا، جاء القرآن بالمرتب وغير المرتب، يقول الله -جل وعلا- {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} هذا إجمال، التفصيل {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} إلى آخره، {وأما الذين ابيضت وجوههم} [(106 - 107) سورة آل عمران] جاء التفصيل بعد الإجمال، لكن هل ترتيب التفصيل مطابق لترتيب الإجمال؟ نعم، غير مطابق، إذا لف ونشر غير مرتب، وقد جاء في أفصح الكلام، اللف والنشر المرتب كما في قوله -جل وعلا-: {فمنهم شقي وسعيد} [(105) سورة هود] {فأما الذين شقوا ففي النار .. . } [(106) سورة هود] {وأما الذين سعدوا ففي الجنة ... } [(108) سورة هود] إلى آخره، هذا نشر بعد لف لكنه على الترتيب، جاء النشر على ترتيب اللف.
هذا الترتيب البديع الذي سلكه الحافظ ابن حجر به ينحصر الذهن ويسهل الفهم فكيف يلام أن ابتكر هذه الطريقة لتيسير التحصيل وتقريب العلم؟! قال: "لأنه مغاير -يعني في ترتيبه- لكل الكتب في علوم الحديث فالكتاب مبني في ترتيبه على أساس التقسيم العقلي عند المناطقة"، وعرفنا أن هذا اللف وهذا النشر له أصل في القرآن الذي هو أفصح الكلام، لكنه قال بعد ذلك: "وليس في هذا الترتيب مؤاخذة على الحافظ، لكن ذلك يدل على تغلغل أثر علم المنطق وتعمقه في فكر الحافظ"، نقول: لا، هذا الأسلوب موجود في النصوص وفي كلام العرب، "يدل على تغلغل أثر علم المنطق وتعمقه في فكر الحافظ ومنهجيته إلى درجة بناء الكتاب في ترتيبه على أساسها".
صفحه ۲۹