بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين
الْحَمد لله الَّذِي صحّح كَلَامه الْقَدِيم، الَّذِي هُوَ أحسن الحَدِيث فرعا وأصلا، وَضعف أجر قارئه فِي كل حرف مِنْهُ عشر حَسَنَات، وَزَاد لبَعْضهِم عدلا وفضلا، وَجعل تالي كَلَامه كَلَام رَسُوله، كإطاعته إطاعة نوعا وفصلا، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من تَوَاتَرَتْ سوابق دلالات معجزاته، واشتهرت لواحق خوارق عاداته، بأسانيد مَرْفُوعَة مُتَّصِلَة بعنوان كراماته، وموصولة بتبيان آيَات كمالاته، أَعنِي سيد الْأَنْبِيَاء، وَسَنَد الأصفياء، مُحَمَّد الْمُصْطَفى، وَأحمد المرتضى، ومحمود الْمُجْتَبى، وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين أدركوا أسراره، وشاهدوا آثاره، وأخبروا أخباره، وَاتبعُوا أنواره.
أما بعد فَيَقُول الأفقر إِلَى كرم الله الْغَنِيّ الْبَارِي، عَليّ بن سُلْطَان مُحَمَّد الْهَرَوِيّ الْقَارِي: إِن بغض أَصْحَابِي وَمن هُوَ من جملَة أحبابي طلب من أَن يقْرَأ عَليّ " شرح نخبة الْفِكر فِي مصطلحات أهل الْأَثر " لمولانا
1 / 117
وَسَيِّدنَا، وَشَيخ مَشَايِخنَا وسندنا، عُمْدَة الْعلمَاء الْأَعْلَام، وزبدة الْفُضَلَاء الْكِرَام، ومقتدى الْأَنَام، وَشَيخ الْإِسْلَام [٢ - أ]، [وخاتمة] الْحفاظ والمحدثين، ونادرة الْمُحَقِّقين والمدققين، الْعَلامَة [الْعَالم الْعَامِل] الرباني، الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر الْعَسْقَلَانِي، روح روحه، وَفتح لنا فتوحه.
[فسنح] بالخاطر الفاتر أَن أجمع مَا يظْهر لي فِي كَلَامه، وَمَا أظهره بعض الْفُضَلَاء فِي الدفاتر، ليَكُون تبصرة لأولي الْأَلْبَاب، وَتَذْكِرَة للأصحاب والأحباب، فَإِن آن الْوُرُود فِي الْمَقْصُود، فَأَقُول بعون الله الْملك المعبود: قَالَ الشَّيْخ:
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) عملا بِالْقُرْآنِ الْمجِيد، واقتداءً / بالفرقان الحميد، وتأسيا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور عِنْد [أَئِمَّة] الْأَثر: " كل أَمر ذِي بالٍ [لَا] يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أَبتر] "، وإيماء بالاستعانة بِهِ تَعَالَى إِلَى التبري عَن
1 / 118
الْحول وَالْقُوَّة، [وَإِشَارَة] إِلَى مرتبَة جمع الْجمع بَين الْجمع الصّرْف والتفرقة، لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى / ٢ - أ / الْغَفْلَة والزندقة، وإشعارًا إِلَى الرَّد على الْمُعْتَزلَة والمُرجئة، وَإِرَادَة للخلاص عَن ضيق رِبقة السمعة والرياء إِلَى فضاء الْإِخْلَاص الَّذِي هُوَ أجل مقَام أهل الِاخْتِصَاص، وَلَا شكّ أَن هَذِه الْمعَانِي المنطوية فِي هَذِه المباني مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي أول كل من الْمَتْن وَالشَّرْح فِي الْحَال الأول وَالثَّانِي، وَكَأن المُصَنّف جمع بَينهمَا لفظا وَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا كِتَابَة، أَو نزّل الْمَتْن وَالشَّرْح منزلةَ كتاب وَاحِد، وَأما مَا فِي بعض النّسخ من قَوْله:
(قَالَ الشَّيْخ): إِلَخ، فَالظَّاهِر أَنه من كَلَام بعض التلامذة النقاد، إعلامًا بِأَنَّهُ تصنيف الْأُسْتَاذ ليَصِح الْإِسْنَاد، وَيصْلح للاعتماد والاستناد، لكنه يُوهم أَن الشَّيْخ لم يَأْتِ بالبسملة مُطلقًا، وَهَذَا لَا يظنّ بِهِ حَقًا، فَكَانَ الْوَاجِب أَن يَأْتُوا بالبسملة مُتَّصِلَة بالحمدلة على مَا فِي نُسْخَة، لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى تَغْيِير التصنيف، وتحريف التَّأْلِيف، وَيحْتَمل أَن أَلْفَاظ الْمَدْح فَقَط مُلْحقَة.
وَقدم الشَّيْخ الْبَسْمَلَة تَعْظِيمًا لَهُ تَعَالَى كَمَا فعله شيخ مَشَايِخنَا الجزريّ فِي مقدمته حَيْثُ قَالَ [٢ - ب] بعد الْبَسْمَلَة.
1 / 119
(يَقُول راجي عَفْو رب سامِع ... مُحَمَّد بن الجزريّ الشَّافِعِي)
(الْحَمد لله وَصلى الله ... على نبيه ومصطفاه)
ثمَّ المُرَاد من (الشَّيْخ): هُوَ الْكَامِل فِي فنه وَلَو شَابًّا، وَأما مَا اخْتَارَهُ بَعضهم من أَنه من خمسين إِلَى ثَمَانِينَ، وَهُوَ السن الَّذِي يسْتَحبّ أَن يكون إسماع الحَدِيث فِيهِ بِلَا خلاف، فخلاف الصَّحِيح كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَله، فَإِن عمر بن عبد الْعَزِيز لم يبلغ أَرْبَعِينَ، وَحدث الإِمَام مَالك حِين بلغ عمره عشْرين.
فَالْحَاصِل: أَنه يُرَاد بِهِ شيخ الْإِسْلَام، وَهُوَ أَن يكون مرجعًا للْأَحْكَام، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث: (الشَّيْخ فِي قومه كالنبي فِي أُمته) // (أسْندهُ الديلمي) //، فالشيخ هُوَ الْكَبِير سِنًا، أَو رُتْبَة. وَمَا أحسن قَول الْعَبَّاس لما سُئِلَ أَنْت أكبر أَو النَّبِي [ﷺ]؟ فَقَالَ: (إِنَّه أكبر، وَأَنا أَسن) .
1 / 120
(الإِمَام) أَي المقتدى بِهِ، وَهُوَ إِمَام أَئِمَّة الْأَنَام كالسيوطي، وَابْن الْهمام، والسخاوي، والقسطلاني، وملا قَاسم الْحَنَفِيّ، وَغَيرهم من الْعلمَاء الْأَعْلَام.
(الْعَالم) أَي الْعَالم الْكَامِل، وَالْمَشْهُور فِي هَذَا الْعلم، فَإِن لَهُ تصانيف كَثِيرَة، وتآليف شهيرة، وأجلها (فتح الْبَارِي فِي شرح البُخَارِيّ) الَّذِي هُوَ فِي هَذَا الْفَنّ غَايَة، بل فِي سَائِر الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة نِهَايَة.
(الْحَافِظ): هُوَ من أحَاط علمه بمئة ألف حَدِيث، ثمَّ بعده الْحجَّة: وَهُوَ من أحَاط / ٢ - ب / علمه بِثَلَاث مئة ألف حَدِيث، ثمَّ الْحَاكِم: وَهُوَ الَّذِي أحَاط علمه بِجَمِيعِ الْأَحَادِيث المروية متْنا وإسنادًا، وجرحًا وتعديلًا وتاريخًا، كَذَا قَالَه جمَاعَة من الْمُحَقِّقين. وَقَالَ الْعَلامَة الْجَزرِي:
1 / 121
الرَّاوِي: ناقل الحَدِيث بِالْإِسْنَادِ. والمحدث من تحمل الحَدِيث رِوَايَة، واعتنى بِهِ دِراية. والحافظ: من روى مَا يصل / إِلَيْهِ ووعى مَا يحْتَاج لَدَيْهِ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيّ: الْمُحدث فِي عرف الْمُحدثين: من يكون لَهُ كتب، وَقَرَأَ، وَسمع، ووعى، ورحل إِلَى الْمَدَائِن والقرى، وَحصل أصولًا من متون [٣ - أ] الْأَحَادِيث، وفروعًا من كتب المسانيد، والعلل، والتواريخ الَّتِي تقرب من ألف تصنيف انْتهى. وَكَأَنَّهُ تَعْرِيف المنتهي! .
وَقَالَ ميرك شاه رَحمَه الله تَعَالَى: المُرَاد بِهِ حَافظ الحَدِيث لَا الْقُرْآن قلت: وَلَا بدع أَن يكون حَافِظًا للْكتاب وَالسّنة، وإنسانًا كَامِلا من بَين الْأمة. وَكَانَ يَقُول شيخ مَشَايِخنَا الْعَارِف الرباني مَوْلَانَا إِسْمَاعِيل الشرواني لبَعض تلاميذه: أَنا وَأَنت إِنْسَان كَامِل، فَإنَّك تحفظ الْقُرْآن ومبناه، وَأَنا أعرف تَفْسِيره وَمَعْنَاهُ.
(وحيد دهره وأوانه) الْإِضَافَة بِمَعْنى فِي، وَالْمعْنَى: نادرة زَمَانه، ومنفردُ أَوَانه.
(وفريد عصره وزمانه) أَي لَا نَظِير لَهُ فِي شَأْنه، عطف تَفْسِير، أَو الأول: لخُصُوص مصره، وَالثَّانِي: لعُمُوم عصره.
1 / 122
(شهَاب الْملَّة وَالدّين) أَي نجمهما الَّذِي يستضيئان بنوره، وينكشفان بِحُضُورِهِ، وأهلهما يستنيران بِهِ حِين حَيَاته، ويستفيدان بكتبه بعد مماته، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالملة: هُوَ طَرِيق التَّوْحِيد الإيماني، وَيُشِير إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا﴾ وَسمي مِلَّة من حَيْثُ إِنَّه يُملى على الْأمة. وبالدين: أَحْكَام الْإِسْلَام، ويومئ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام﴾ وَسمي بِهِ من حَيْثُ إِنَّه يتدين بِهِ، وينقاد إِلَيْهِ، ويجازى عَلَيْهِ.
(أَبُو الْفضل) كنيته، وَهُوَ يحْتَمل أَن يكون لَهُ ولد مُسَمّى بِالْفَضْلِ، أَو المُرَاد بِهِ أَنه صَاحب الْفضل وَالزِّيَادَة من الْأَمْوَال الدُّنْيَوِيَّة، أَو ذُو الْفَضِيلَة من الْعُلُوم الأخروية، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة﴾ وَالْمرَاد بِهِ الصّديق الْأَكْبَر ﵁. وَهَذَا الَّذِي اخترناه أولى مِمَّا ذكره صَاحب الجلالين من الْعَطف التفسيري، فَإِن التأسيس مهما أمكن [فَهُوَ] أولى من التَّأْكِيد.
(أَحْمد بن عَليّ العَسقلاني) بِفَتْح الْعين، وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفتح الْقَاف نِسْبَة إِلَى بلد بساحل الشَّام.
(الشهير) أَي الْمَشْهُور (بِابْن حجر) قَالَ السَّيِّد أصيل الدّين: هُوَ لقب الشَّيْخ [٣ - ب]، وَإِن كَانَ بِصِيغَة الكنية، وَذَلِكَ شَائِع / ٣ - أ /، وَوجه تلقيبه بذلك كَثْرَة
1 / 123
مَاله وضياعه، وَالْمرَاد بِالْحجرِ: الذَّهَب وَالْفِضَّة. انْتهى. وَيحْتَمل أَنه كَانَت لَهُ جَوَاهِر كَثِيرَة فَسُمي بِهِ، وَقيل: لُقب بذلك لجودة ذهنه، وصلابة رَأْيه بِحَيْثُ يردُ اعْتِرَاض كل معترض، وَلَا يتَصَرَّف فِيهِ أحد من أقرانه، وَلذَا قَالَ بعض الظرفاء فِي حَقه: رَجح بِنَا ابْن حجر يقْرَأ طردًا وعكسًا كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿كل فِي فلك﴾ . وَقيل: سُمي بِهِ لكَونه اسْم أَبِيه الْخَامِس، لِأَنَّهُ كَانَ حَامِل الْحجر، (أثابه) أَي الله تَعَالَى - وَكَانَ الأولى ذكره كَمَا فِي نُسْخَة، وَإِن كَانَ فِي الذِّهْن مَذْكُورا - (الْجنَّة) أَي جازاه أَعلَى درجاتها، وَأَعْلَى مقاماتها (بفضله وَكَرمه) أَي زِيَادَة على عدله بِمُقَابلَة عمله وَعلمه.
(الْحَمد لله) جوز فِي لَام التَّعْرِيف أَن تكون للْجِنْس، أَو الِاسْتِغْرَاق، أَو الْعَهْد. وَقد سَأَلَ الشَّيْخ أَبُو / الْعَبَّاس المرسي ابْن النّحاس النَّحْوِيّ عَن الْألف وَاللَّام فِي الْحَمد لله، أجنسية هِيَ، أم عهدية؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدي قَالُوا: إِنَّهَا جنسية، فَقَالَ لَهُ: الَّذِي أَقُول: إِنَّهَا عهدية، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما علم عجز خلقه عَن كنه حَمده وَحقه، حمد نَفسه بِنَفسِهِ فِي أزله نِيَابَة عَن خلقه قبل أَن يحمدوه، فَقَالَ
1 / 124
(ابْن النّحاس): أشهدك أَنَّهَا للْعهد. انْتهى.
وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن الْعبْرَة بذلك الْحَمد، لَا أَنه منحصر فِيهِ. وَيُشِير إِلَى الْعَهْد أَيْضا قَوْله [ﷺ]: (وَلَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك) لَكِن قَول الشَّيْخ: نِيَابَة عَن خلقه لما علم عجزهم، غير مُحْتَاج إِلَيْهِ لِأَن عِنْد الصُّوفِيَّة لَا يعول عَلَيْهِ إِذْ الْحَمد ثَابت لَهُ أزلا وأبدًا، فَكَأَن الشَّيْخ تنزل عَن مقاماته وحالاته من آثَار المحو، إِلَى مقَام ابْن النّحاس الْمُقَيد بالنحو، لما ورد: " كلم النَّاس على قدر عُقُولهمْ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قد علم كل أنَاس مشربهم﴾ .
وَالْأَظْهَر عِنْدِي أَن اللَّام للاستغراق الْحَقِيقِيّ دون العُرفي، كَمَا قيل بِهِ، فَالْمَعْنى: أَن كل حمد صدر من كل حَامِد، فَهُوَ لله تَعَالَى حَقِيقَة، [٤ - أ] وَإِن كَانَ بعض أَفْرَاده لغيره تَعَالَى صُورَة، بل الْمصدر بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ من الفاعلية والمفعولية، فَيُفِيد أَن الله تَعَالَى هُوَ الحامد وَهُوَ الْمَحْمُود، سوى الله - وَالله - مَا فِي الْوُجُود. وَمِنْه قَول شيخ مَشَايِخنَا: اسْتغْفر الله مِمَّا سوى الله، وَمِنْه قَول الْعَارِف ابْن الفارض:
1 / 125
(وَلَو خطرت لي فِي سواك إِرَادَة ... على خاطري سَهوا حكمت بردتي)
وَمِنْه حَدِيث (أصدق كلمة قَالَهَا الشَّاعِر كلمة لبيد: " أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ".
وَإِلَيْهِ الْإِيمَاء بقوله تَعَالَى ﴿كُل شيءٍ هالِك إِلَّا وَجههُ﴾ . نعم أظهر مظَاهر محمدة الْحق هُوَ الْمَحْمُود، الْمُسَمّى بِمُحَمد المنعوت بِأَحْمَد الْخلق، أَو الْمَعْنى / ٣ - ب /: جنس الْحَمد مُسْتَحقّ لَهُ تَعَالَى سَوَاء حُمد أَو لم يُحمد، وَيُشِير إِلَيْهِ: يَا الله الْمَحْمُود فِي كل فِعَاله، وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد﴾ . وَأما مَا قيل: إِذا كَانَ اللَّام للْجِنْس، فإفادته قَاصِرَة إِذْ لَا يلْزم من إِثْبَات الْجِنْس لأحد إحاطة أَفْرَاد لَهُ، فمدفوع هُنَا بِأَن لَام لله للاختصاص، فَلَا يخرج فَرد من هَذَا الْمقَام الْخَاص، فَيرجع مَعْنَاهُ إِلَى الِاسْتِغْرَاق.
وَقَول صَاحب المدارك: وَاللَّام فِيهِ للاستغراق عندنَا خلافًا للمعتزلة، يُرِيد بِهِ أَن الْمُعْتَزلَة لَا يجوزونه بِنَاء على مَسْأَلَة خلق الْأَفْعَال، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَن كَونهَا للْجِنْس هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فَقَط كَمَا تُوهم، فَإِن الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره من الْمُحَقِّقين جوزوا الْجِنْس، بل رجحوه، وقدموه على الِاسْتِغْرَاق لِأَنَّهُ الأَصْل فِي التَّعْرِيف.
1 / 126
ثمَّ الْمَشْهُور أَن جملَة الحمدلة مبناها إخبارية، وَمَعْنَاهَا إنشائية. وَسُئِلَ ابْن الهُمَام عَنْهَا فَأجَاب: بِأَنَّهَا إنشائية فَقيل: بل خبرية، قَالَ فَحِينَئِذٍ: لَيْسَ لنا حامدون. فَقيل: فَإِذا لَيْسَ لله حَقِيقَة الْحَمد ثَابِتَة. انْتهى وَمعنى كَلَام ابْن الهُمَام أَنه حِينَئِذٍ لَا نَكُون حامدين مَعَ أَنه يُقَال لقائلها: حامدًا، وَلَو كَانَت خبرية معنى لم يُسَمُ إِلَّا مخبرا، لِأَن من الْمَعْلُوم أَنه لَا يُشتق للمخبر عَن شَيْء اسمُ [٤ - ب] فَاعل من ذَلِك الشَّيْء، إِذْ لَا يُقَال لمن قَالَ: الضَّرْب مؤلمُ ضَارب، لَكِن يُمكن دَفعه بِأَنَّهُ جَازَ أَن يَعدٌ الشَّرْع الْمخبر / بِثُبُوت الْحَمد لله تَعَالَى حامدًا.
ثمَّ الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى أَتَى بالحمدلة بعد الْبَسْمَلَة تخلقًا بالأخلاق الربانية، وتعلقًا بالكلمات السبحانية، وجمعًا بَين الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة والْآثَار المصطفوية حَيْثُ قَالَ: " كُل أَمر ذِي بالٍ لم يُبدأ فِيهِ بِالْحَمْد لله [فَهُوَ أَبتر] " وَفِي رِوَايَة: [(بِحَمْد لله) وَفِي رِوَايَة: (بِالْحَمْد] فَهُوَ أقطع) وَفِي رِوَايَة: (أَجْذم) . أَي مَقْطُوع الْبركَة. ثمَّ الِابْتِدَاء وَإِن كَانَ يحصل بِكُل من الْبَسْمَلَة والحمدلة لما فِي رِوَايَة: (لَا يُبدأ فِيهِ بِذكر الله) إِلَّا أَن الْجمع بَينهمَا أفضل، وثوابهما أكمل. ثمَّ الِابْتِدَاء عرفي
1 / 127
يَمْتَد إِلَى الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود، وَالْأول حَقِيقِيّ، وَالثَّانِي إضافي، وَالْأول أولى بالحقيقي، فَإِن الثَّانِي بِمَنْزِلَة الشُّكْر على توفيق الذّكر الإلهي الْمُقْتَضِي لتصحيح النِّيَّة، والباعث على مُلَاحظَة الْمِنَّة، ومطالبة المعونة، والتبري من الْحول وَالْقُوَّة.
(الَّذِي لم يزل عَالما قَدِيرًا) كَانَ الأولى مبْنى وَمعنى أَن يَقُول: عليمًا قَدِيرًا ليدل على كَثْرَة الْعلم، وسعة الْقُدْرَة. وَأما مَا قيل: لَو قَالَ: وَلَا يزَال ليصرح بِأَن علمه تَعَالَى وَقدرته أبدي كَمَا أنّ كلا مِنْهَا أزلي لَكَانَ أحسن، فيجاب عَنهُ: بِأَن مَا ثَبت قدمه اسْتَحَالَ عَدمه / ٤ - أ /، وَهُوَ أحد الْأَجْوِبَة عَن قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا﴾ . ﴿حَيا قيومًا﴾ فيعول: من الْقيام أَي الْقَائِم بِذَاتِهِ الْمُقِيم لغيره قيل: لما ذكر فِي الْمَتْن أَنه تَعَالَى متصف بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة أزلًا نبه فِي الشَّرْح على أَنه لَا يزَال كَذَلِك سرمدًا بقوله: حَيا قيومًا، لِأَن مَعْنَاهُ دَائِم الْبَقَاء.
ونوقش بِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على أنّ ذَاته أبدية، ودَفعُهُ ظَاهر لِأَن الصِّفَات الذاتية لَا تنفك عَن الذَّات الإلهية.
﴿سميعا بَصيرًا﴾ قيل: اللَّائِق أَن يزِيد مرِيدا متكلمًا، لتَكون الصِّفَات الذاتية بِتَمَامِهَا مَذْكُورَة.
وَأجِيب: بِأَن الْقُدْرَة تَسْتَلْزِم الْإِرَادَة، والتكلم. وَأغْرب محشٍّ جميل،
1 / 128
فَقَالَ: إِنَّمَا لم يقل متكلمًا لِأَن التَّكَلُّم مُشكل، وَقَالَ الشَّارِح وجيه: قيل: اللَّائِق ذكر جَمِيع الصِّفَات الذاتية [٥ - أ] وَسكت على الْجَواب بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَعَلَّ الشَّيْخ اكْتفى بالوصفين السَّابِقين فِي الْمَتْن إشعارًا بِأَن الْعلم لشُمُوله الجزئيات والكليات يتَضَمَّن المسموعات، والمبصَرات، وَأَن الْقُدْرَة تَسْتَلْزِم بَقِيَّة الصِّفَات.
(وَأشْهد) أُورِد عَلَيْهِ أَنه عطف الفعلية الإنشائية [على الاسمية الإخبارية، ودُفعَ بِأَن الحمدلة - كَمَا تقدم - فِي الْمَعْنى إنشائية]، وَبِأَن أَصله: حمدت الله، أَو أَحْمَده حمدًا، فَكَانَ فِي الْمَعْنى فعلية. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ بِنَاء على الْكَلَام فِي الاعتبارات الرسمية، وَإِلَّا فَلَا منع من عطف الاسمية على الخبرية، وَعَكسه كَمَا ورد فِي كَلَام أهل الْعَرَبيَّة.
ثمَّ معنى أشهد: [أُقِرّ عَن صميم قلب، وَأخْبر عَن علم يَقِين] فَلَا يشكل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ﴾ بعد قَوْله ﷿: ﴿إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله﴾ وَلذَا قدم دفع الْوَهم بقوله ﷿: ﴿وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله﴾ .
(أنْ) مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة أَي أَنه (لَا إِلَه إِلَّا الله) الْمَشْهُور: أَن خبر لَا مَحْذُوف، وَهُوَ: مَوْجُود. وَقَالَ صَاحب الْكَشَّاف: يجوز أَن يكون لَا إِلَه إِلَّا الله جملَة تَامَّة. من غير تَقْدِير حذف الْخَبَر، يَعْنِي لَا إِلَه: مُبْتَدأ، وَإِلَّا الله: خَبره، قيل:
1 / 129
يلْزم / أَن يكون الْمُبْتَدَأ نكرَة، وَالْخَبَر معرفَة، قَالَ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قيل، لِأَن أصل الْكَلَام فِي التَّقْدِير: الله إِلَه، قُدم الْخَبَر دفعا لإنكار المنكِرِ، فَصَارَ: إلهُ الله، ثمَّ أُريد نفيُ الْآلهَة، وإثباته قطعا. فَدخل فِي صدر الْكَلَام من الْجُمْلَة حرف " لَا " وَفِي وَسطهَا " إِلَّا " ليحصل غرضهم، فَصَارَ لَا إِلَه إِلَّا الله. انْتهى.
وَالْمَشْهُور: أَن رفع الْجَلالَة على الْبَدَلِيَّة من الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي الْخَبَر الْمُقدر، وجُوِّز نصبها على الِاسْتِثْنَاء من الضَّمِير الْمَذْكُور. قيل: هَذِه / ٤ - ب / الْكَلِمَة كلمة تَوْحِيد إِجْمَاعًا، وَلَا يَسْتَقِيم ذَلِك مَا لم يكن صدر الْكَلَام نفيا لكل معبود بِحَق.
وَالله: اسْم للمعبود بِالْحَقِّ، وَمثله يكون تناقضًا فِي القَوْل، وَهُوَ محَال فِي كلمة التَّوْحِيد المجمَع على صِحَّتهَا. وَأجِيب بِأَن الْمَنْفِيّ فِي صدر الْكَلَام مَفْهُوم كلي كالإله، والمأخوذ من مَدْلُول الْجَلالَة فَرد خَاص من مَفْهُوم الْإِلَه بِمَعْنى أَن لَفْظَة " الله " علم للمعبود بِالْحَقِّ الْمَوْجُود الْخَالِق للْعَالم، لَا أَنه اسْم لذَلِك الْمَفْهُوم الْكُلِّي كالإله. وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي الإتقان: وَقد [٥ - ب] توجب الصِّنَاعَة النحوية التَّقْدِير، وَإِن كَانَ الْمَعْنى غير مُتَوَقف عَلَيْهِ، فَقَالُوا فِي: لَا إِلَه إِلَّا الله: إِن الْخَبَر مَحْذُوف، أَي مَوْجُود. وَقد أنكرهُ الإِمَام الرَّازِيّ وَقَالَ: هَذَا كَلَام لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير، وَتَقْدِير النُّحَاة فَاسد، لِأَن نفي الْحَقِيقَة مُطلقَة أتمُّ من نَفيهَا مُقَيّدَة [بِقَيْد مَخْصُوص]، فَإِنَّهَا إِذا انْتَفَت مُطلقَة كَانَ ذَلِك دَلِيلا على سلب الْمَاهِيّة مَعَ الْقَيْد،
1 / 130
وَإِذا انْتَفَت مُقَيّدَة بِقَيْد مَخْصُوص لم يلْزم نَفيهَا مَعَ قيد آخر. ورد بِأَن تقديرهم " مَوْجُود " يسْتَلْزم نفي كل إِلَه غير الله قطعا، فَإِن الْعَدَم لَا كَلَام فِيهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة نفي للْحَقِيقَة مُطلقَة لَا مُقَيّدَة، ثمَّ لَا بُد من تَقْدِير خبر لِاسْتِحَالَة مُبْتَدأ بِلَا خبر ظَاهر أَو مُقَدّر، وَإِنَّمَا يقدر النَّحْوِيّ ليعطي الْقَوَاعِد حَقّهَا، وَإِن كَانَ الْمَعْنى مفهومًا. انْتهى. وَفِيه بحثان:
الأول: أَن كَلَام الإِمَام تَحْقِيق وتدقيق فِي المرام ورده مصادرة، بل مُكَابَرَة بِلَا نظام.
وَالثَّانِي: أَن كَلَامه لَا يدل على نفي الْقَوَاعِد النحوية بِالْكُلِّيَّةِ، بل ذهب إِلَى مَسْلَك " الْكَشَّاف " فِي عدم الْحَاجة إِلَى تَقْدِير كلمة تكون مَرْفُوعَة بالخبرية، وعَلى تَقْدِير التَّقْدِير يَنْبَغِي أَن يقدر " لنا " لِئَلَّا يَرِد شَيْء من عدم التَّحْقِيق علينا مُرَاعَاة للجانبين، ومحافظة للمذهبين.
وَكَأن الْجُمْهُور نظرُوا إِلَى أَن الْمَعْدُوم لظُهُور حُدُوثه لَا يصلح للألوهية، فَلَا يحْتَاج إِلَى نَفْيه، أَو نَفْيه يُفَهم بالبرهان الأولى، أَو أَرَادوا بموجود أَعم من أَن يكون مَوْجُودا فِي الْحَال والاستقبال، وَالله أعلم بالمآل.
(وحدَه) حَال على مَذْهَب الْكُوفِيّين، وَتَقْدِيره متوحدًا ومنفردًا على مَذْهَب الْبَصْرِيّ وَهُوَ حَال مُؤَكدَة، (لَا شريك لَهُ) المُرَاد بِالْأولَى: وحدته فِي الذَّات، وبالثانية: وحدته فِي الصِّفَات. (وأُكبِّره) أَي أُعَظمُه وأعتقد أَنه أكبر من أنْ يُحاط بكُنه كبريائه، (تَكْبِيرا) أَي تَكْبِيرا كثيرا.
(وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عبدُه ورسُوله) كَذَا فِي نُسْخَة مصححة. وَالظَّاهِر أَنَّهَا
1 / 131
مُلحَقَة من النَّاسِخ لعدم إتْيَان الشَّيْخ بِمَا يُنَاسب الْمقَام من السجع كَمَا هُوَ دأب أَرْبَاب الْكَلَام / ٥ - أ /، وَلَا يلائم أَن يكون مَا بعده من الْمَتْن متممًا لَهُ لوُجُود وَاوِ الْفَصْل / لَكِن يُشكل بِأَن الْخطْبَة لَا تتمّ بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَة، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُتكَلَّف [٦ - أ] بِأَن يُقَال: قَوْله: وَصلى الله ... الخ قَامَ مقَامهَا.
ثمَّ قيل: أورد المُصَنّف الشَّهَادَة فِي الْخطْبَة عملا بقوله ﷺ: " كل خُطبة لَيْسَ فِيهَا تشهّد فَهِيَ كَالْيَدِ الجذماء " // (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي جَامعه) //، ونوقش بِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَن يوردها فِي خطْبَة الْمَتْن أَيْضا، ودُفع بِأَنَّهُ لم يُوردها فِي الْمَتْن إِشَارَة إِلَى أَن الحَدِيث ضَعِيف، فَلم يجب الْعَمَل بِهِ وأوردها فِي خطْبَة الشَّرْح إِيمَاء إِلَى أَن الحَدِيث الْوَارِد فِي فَضَائِل الْأَعْمَال يُستحسن الْعَمَل بِهِ، وَإِن كَانَ ضَعِيفا.
وَالْأَظْهَر أَن يُقَال: صرَّح بِلَفْظ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الشَّرْح عملا بِظَاهِر الحَدِيث، وأتى فِي الْمَتْن بمعناهما كَمَا قيل بِهِ فِي تَأْوِيل الحَدِيث على مَا نقل من التُّوَّرِبِشْتيّ وَغَيره مُرَاعَاة للإيجاز والإطناب بِحَسب مَا يَلِيق بِكُل بابٍ من الْكتاب، وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا ترك الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْمَتْن بِنَاء على أَن المُرَاد بالخُطبة
1 / 132
الْخطْبَة على الْمِنْبَر المتعارفة فِي زَمَنه ﷺ، وأتى بهما فِي الشَّرْح عملا بالاستحباب فِي خطْبَة الْكتاب، لِأَن الْعبْرَة بِعُمُوم الْأَلْفَاظ لَا بِخُصُوص الْأَسْبَاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
(وَصلى الله على سّيدنا) الْجُمْلَة خبرية لفظا، ودعائية معنى. وَالصَّلَاة من الله تَعَالَى: إدرار الرَّحْمَة وَإِظْهَار المَرْحَمة. وتعديتة بعلى لحُصُول الاستعلاء، وتوهم بَعضهم أَن على مُطلقًا للضَّرَر، وَاللَّام للنفع، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مُخْتَصّ بِفعل تَارَة يتَعَدَّى بِاللَّامِ، وَمرَّة بعلى كدعا لَهُ، ودعا عَلَيْهِ، وَشهد لَهُ، وَشهد عَلَيْهِ، وَحكم لَهُ، وَحكم عَلَيْهِ، لَا يُقَال: صلى بِمَعْنى دَعَا، فَإِنَّهُ لَا يلْزم توَافق المترادفين فِي التَّعْدِيَة، أَلا ترى أَنه لَا يُقَال: صلى لَهُ مَعَ أَن الصَّلَاة إِنَّمَا وَردت بِمَعْنى الدُّعَاء بِخَير، فَزَالَ الْإِشْكَال من أَصله.
(مُحَمَّد) هُوَ فِي أَصله اسمُ مفعول من حُمِّد بِالتَّشْدِيدِ مُبَالغَة حَمِد بِالتَّخْفِيفِ، سمي بِهِ رجاءَ أَن يكون يحمده الْأَولونَ وَالْآخرُونَ ﴿وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا﴾ . وَلذَا قيل: الْأَسْمَاء تتنزل من السَّمَاء، فنُقل من الوصفية [٦ - ب] إِلَى العلمية.
(الَّذِي أرْسلهُ) أَي جعله رَسُولا بَعْدَمَا صيّره نَبيا.
1 / 133
(للنَّاس) أَي لأجل نفعهم، فَالْمُرَاد بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّهُم المنتفعون كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿هدى لِلْمُتقين﴾ أَو عَام لقِيَام الْحجَّة عَلَيْهِم كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿هدى للنَّاس﴾ والجِنّ تَابع لَهُم، أَو يُطلق النَّاس عَلَيْهِم، وَيحْتَمل أَن تكون اللَّام بِمَعْنى إِلَى، كَمَا تدل / ٥ - ب / عَلَيْهِ نُسْخَة، وَقيل: بُعث إِلَى الْخلق جَمِيعًا حَتَّى الْجِنّ، والحيوانات، والجمادات.
(كافّةً) هِيَ من الشَّرْح قيل: إرْسَالًا كَافَّة بِمَعْنى عَامَّة لَهُم، فَهِيَ مفعول مُطلق. أَو جَامعا لَهُم فِي الإبلاغ، فَهِيَ حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي أرْسلهُ، وَالتَّاء للْمُبَالَغَة، وَالْأَظْهَر: أَنَّهَا فِي هَذَا الْمقَام حَال من النَّاس، وَإِنَّمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس﴾ لَا يجوز جعلهَا حَالا من النَّاس على الْمُخْتَار، لِأَن تقدم حَال الْمَجْرُور عَلَيْهِ كتقدم الْمَجْرُور على الْجَار. قَالَ أَبُو حَيَّان: هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور. وَذهب أَبُو عَليّ، وَابْن كَيْسَان، وَابْن برهَان، وَابْن مَالك إِلَى جَوَازه، وَهُوَ الصَّحِيح.
(بشيرًا) أَي مبشرًا للْمُؤْمِنين بِالْجنَّةِ، (وَنَذِيرا) / أَي منذرًا ومخوفًا للْكَافِرِينَ بالنَّار. وَحذف مفعولاهما لوضوحهما وليذهب الْوَهم كل مَذْهَب، وإيماء إِلَى أَنه لَا يُمكن بيانهما.
1 / 134
(وعَلى آل مُحَمَّد) أَي أَقَاربه وَأَتْبَاعه، فَالْأول - من جِهَة النّسب -: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس ﵄ أَنه قَالَ: " هم أولادُ عليّ، وجعفَر، وَعقيل، وَالْعَبَّاس ". وَمن جِهَة الدّين: مَا رُوِيَ عَنهُ ﷺ: " آلُ محمدٍ كلُّ تَقِيّ " // (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ) // فِي الْأَوْسَط عَن أنس. وَيُمكن حمل الحَدِيث على الْعُمُوم، وَيحْتَمل أَن يكون الثَّانِي تقييدًا للْأولِ فَتَأمل، فَإِنَّهُ الْمَعْقُول بِقَرِينَة قَوْله:
(وَصَحبه) لِأَن الأَصْل فِي الْعَطف التغاير، وَإِن احْتمل التَّخْصِيص بعد التَّعْمِيم بِنَاء على الثَّانِي. وَفِي ذكرهمَا إِيمَاء إِلَى ردّ الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض، وَهُوَ اسْم جمع. وَقيل: جمع وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ المصطلح.
(وسَلَّم) بِفَتْح اللَّام عطف على صلى، وَجمع بَينهمَا لقَوْله تَعَالَى: ﴿صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا﴾ وَالْمرَاد بإيراد:
(تَسْلِيمًا) إِظْهَار [٧ - أ] زِيَادَة التَّعْظِيم، وإفادة التكثير. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله:
(كثيرا) وَقد ورد: " أَكْثِرُوا الصلاةَ عليّ، فإنّ صَلَاتكُمْ عليَّ مغفرةٌ لذنوبكم " وَفِي حَدِيث قدسي: " مَنْ صلّى عَلَيْك صليتُ عَلَيْهِ، ومَنْ سلّم عَلَيْك
1 / 135
سلَّمتُ عَلَيْهِ ". ثمَّ هَذَا الَّذِي فعله من ذكر الصَّلَاة على رَسُوله ﷺ بعد الحمدِ لَهُ تَعَالَى هُوَ عَادَة الْعلمَاء على مَا قَالَه النَّوَوِيّ. وَعَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ورفعنا لَك ذكرك﴾ قَالَ: " لَا أُذكُر إِلَّا ذُكِرتَ معي ".
(أما بعد) أَي بعد مَا ذُكر، وَلما كَانَت أمّا متضمنةً لِمَعْنى الشَّرْط كَمَا هُوَ مُقَرر، أَتَى بِالْفَاءِ الجزائية فِي قَوْله:
(فإنّ) وَقيل: لدفع توهم الْإِضَافَة، وَقَوله:
(التصانيف) جمع تصنيف مَأْخُوذ من الصِنف، لِأَن الْمُؤلف يجمع بَين أَنْوَاع الْكَلَام ويجعلها صنفا صنفا لتَمام النظام.
(فِي اصْطِلَاح أهل الحَدِيث) أَي فِي عرفهم، وَهُوَ: توافقهم على اسْتِعْمَال أَلْفَاظ مَخْصُوصَة يتداولونها على وَجه التعارف فِيمَا بَينهم كَمَا اصْطَلحُوا عَلَيْهَا. (قد كَثُرت) أَي / ٦ - أ / التصانيف، (للأئمة) حَال من ضمير كثرت، (فِي الْقَدِيم والْحَدِيث) أَي فِي قديم الزَّمَان، وجديده فِيمَا بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، فَمِمَّنْ صنف، وَفِي نُسْخَة:
1 / 136