شرح المقاصد في علم الكلام 1
صفحه ۱
بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا من بيده ملكوت كل شيء وبه اعتضاده ومن عنده ابتداء كل حي وإليه معاده تتلى من أوراق الأطباق آيات توحيده وتحميده وتجلى في الآفاق والأنفس شواهد تقديسه وتمجيده ما تسقط في الأكوان من ورقة إلا تعلمها حكمته الباهرة ولا توجد في الإمكان من طبقة إلا تشملها قدرته القاهرة تقدس عن الأمثال والأكفاء ذاته الأحدية وتنزه عن الزوال والفناء صفاته الأزلية والأبدية سجدت لعزة جلاله جباه الأجرام العلوية ونطقت بشكر نواله شفاه الأنوار القدسية ونشكرك على ما علمتنا من قواعد العقائد الدينية وخولتنا من عوارف المعارف اليقينية وهديتنا إليه من طريق النجاة وسبيل الرشاد ودللتنا عليه من سنن الاستقامة ونهج السداد ونصلي على نبيك محمد المنعوت بأكرم الخلائق المبعوث رحمة للخلائق أرسلته حين درست أعلام الهدى وظهرت أعلام الردى وانطمس منهج الحق وعفا وأشرقت مصابيح الصدق على الانطفاء فأعلى من الدين معالمه ومن اليقين مراسمه وبين من البرهان سبيله ومن الإيمان دليله وأقام للحق حجته وأنار للشرع محجته حتى انشرح الصدور بنور البينات وانزاح عن القلوب صدأ الشبهات وأشرق وجه الأيام واتسق أمر الإسلام واعتصم الأنام بأوثق عصام ماله من انفصام وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وخلفاء اليقين مصابيح الأمم ومفاتيح الكرم وكنوز العلم ورموز الحكم رؤساء حظائر القدس وعظماه بقاع الأنس قد صعدوا ذرى الحقائق بإقدام الأفكار ونوروا سبع طرائق بأنوار الآثار وقارعوا على الدين فكشفوا عنه القوارع والكروب وسارعوا إلى
صفحه ۲
اليقين فصرفوا عنه العوادي والخطوب فابتسم ثغر الإسلام وانتظم أمر المسلمين واتضح وعدا من الله وحقا عليه نصر المؤمنين وبعد فقد كنت في إبان الأمر وعنفوان العمر إذ العيش غض والشباب بمائه وغصن الحداثة على نمائه وبدور الآمال طالعة مسفرة ووجوه الأحوال ضاحكة مستبشرة ورباع الفضل معمورة الأكناف والعرصات ورياض العلم ممطورة الأكمام والزهرات أسرح النظر في العلوم طلبا لأزهارها وأنوارها وأشرح الكتب من الفنون كشفا لأستارها عن أسرارها يرد على حذاق الآفاق غوصا على فرائد فوائدها ويتردد إلى أكياس الناس روما لشوارد عوائدها علما منهم بأنا بذلنا قوانا لاكتساب الدقائق وقتلنا نهانا في طلاب الحقائق وحين رأوا علم الكلام الذي هو أساس الشرائع والأحكام ومقياس قواعد عقائد الإسلام أعز ما يرغب فيه ويعرج عليه وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه لكونه أوثق العلوم بنيانا وأصدقها تبيانا وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا وأصحها حجة ودليلا وأوضحها محجة وسبيلا حاموا جميعا حول طلابه وراموا طريقا إلى جنابه والتمسوا مصباحا على قبابه ومفتاحا إلى فتح بابه فافترصت لمعة من ظلم الدهر ونبوة من أنياب النوائب وانتهزت فرصة من عين الزمان وخفة من زحام الشوائب وأخذت في تصنيف مختصر موسوم بالمقاصد منظوم فيه غرر الفرائد ودرر الفوائد وشرح له يتضمن بسط موجزه وحل ملغزه وتفصيل مجمله وتبيين معضله مع تحقيق للمقاصد وفق ما يرتاد وتدقيق للمعاقد فوق ما يعتاد وتحرير للمسائل بحسب ما يراد ولا يزاد وتقرير للدلائل بحيث لا يضاد ولا يصاد بألفاظ تنفتح بها الآذان وتنشرح الصدور وتتفطر بالأنهار والأزهار جبال وصخور ومعان تتهلل بها وجوه الأوراق وتتبسم ثغور السطور وتتلألأ خلال الكلام كأنها نور على نور باذلا الجهد في إيراد مباحث قلت عناية المتأخرين بها من المتكلمين وقد بالغ في الاعتناء بها المحققون من المتقدمين لا سيما السمعيات التي هي المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في أصول الدين والعروة الوثقى والعمدة القصوى لأهل الحق واليقين وحين حررت بعضا من الكتاب ونبذا من الفصول والأبواب تسارع إليه الطلاب وتداولته أيدي أولي الألباب وأحاط به طلبته كل طالب وناط به رغبته كل راغب وعشا ضوء ناره كل وارد ووجه إليه الهمة كل رائد وطفقوا يمتدحون ويقترحون وزناد الازدياد يقتدحون وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف والمقصود يتقاعس عن الحصول وينحرف والأيام تحول وتحجز وتعد ولا تنجز والدهر يشكى ويبتكى والعقل يضحك ويبكى العجب من تقاصر همم الرجال وفسادها وتراجع سوق الفضائل وكسادها وتضعضع بنيان الحق وتداعي
صفحه ۳
أركانه وتزعزع شأن الباطل وتمادى طغيانه وتطاول أيام كلها غضب وعتب وعلى الألباب عول والب تجمع بين الجفون والسهاد وتفرق بين العيون والرقاد لا في القول إمكان وللتحصيل تأييد ولا في قوس الرماء منزع ولسهم النضال تسديد وهلم جرا إلى أن رماني زماني وبلاني من الحوادث بما بلاني وحالت الأحوال دون الأمان بل الأماني وأصبح شاني أن يفيض غروب شاني تناء بي الأوطان والأوطار وترامت بي الأقطار والأسفار قاسى أحوالا تشيب النواصي وأهوالا تذيب الرواسي أشاهد من أسباب انقراض العلوم وانتقاض مددها وانتقاض مددها ما تكادالأنفاس له تتقطع والجبال تتصدع وقد ملكتها وحشة المضياع وخبرة المزياع ووقفت على ثنية الوداع لا طلول ولا يفاع ولا رسوم ولا رباع كلما نويت نشر ما طويت وتصديت لإتمامه أو تمنيت عرض من الموانع والقواطع وحدث من النوائب والشوائب ما يحول أيسرها بين المرء وقلبه وتصدأ به مرآة فكره وعقله ويزول باد ولها ريق خاطره وناظره ويذهب رونق باطنه وظاهره إلى أن تداركني نعمة من ربي وتماسك بي عودة من فهمي ولبي فأقبلت على إتمام الكتاب وانتظام تلك الفصول والأبواب فجاء بحمد الله كنزا مدفونا من جواهر الفوائد وبحرا مشحونا بنفايس الفرائد في لطائف طالما كانت مخزونة وعن الإضاعة مصونة مع تنقيح للكلام وتوضيح للمرام بتقريرات ترتاح لها نفوس المحصلين وينزاح منها شبه المبطلين وتضحى أنوارها في قلوب الطالبين وتطلع نيرانها على أفئدة الحاسدين لا يعقل بيناتها إلا العالمون ولا يجحد بآياتها إلا القوم الظالمون يهتز لها علماء البلاد في كل ناد ولا يغض منها إلا كل هايم في واد من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلله فما له من هاد وإذا قرع سمعك ما لم تسمع به من ألأولين فلا تسرع وقف وقفة المتأملين لعلك تطلع بوميض برق إلهي وتألق نور رباني من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة على برهان له جلي أو بيان من آخرين واضح خفي والله سبحانه ولي الإعانة والتوفيق وبتحقيق آمال المؤمنين حقيق قال ورتبته على ستة مقاصد أقول اعلم أن للإنسان قوة نظرية كمالها معرفة الحقائق كما هي وعملية كمالها القيام بالأمور على ما ينبغي تحصيلا لسعادة الدارين وقد تطابقت الملة والفلسفة على الاعتناء بتكميل النفوس البشرية في القوتين وتسهيل طريق الوصول إلى الغايتين إلا أن نظر العقل يتبع في الملة هداه وفي الفلسفة
صفحه ۴
هواه وكما دونت حكماء الفلسفة الحكمة النظرية والعملية إعانة للعامة على تحصيل الكمالات المتعلقة بالقوتين دونت عظماء الملة وعلماء الأمة علم الكلام وعلم الشرايع والأحكام فوقع الكلام للملة بإزاء الحكمة النظرية للفلسفة وهي عندهم تنقسم إلى العلم المتعلق بأمور تستغني عن المادة في الوجود والتصور جميعا وهو الإلهي أو في التصور فقط وهو الرياضي أولا تستغني أصلا وهو الطبيعي ولكل منها أقسام وفروع كثيرة إلا أن المقدم في الاعتبار بشهادة العقل والنقل هو معرفة المبدأ والمعاد المشار إليهما بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وطريق الوصول إليها هوالنظر في الممكنات من الجواهر والأعراض على ما يرشد إليه مواضع من كتاب الله تعالى وما أحسن ما أشار أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إلى أن المعتبر من كمال القوة العملية ما به نظام المعاش ونجاة المعاد ومن النظرية العلم بالمبدأ والمعاد وبما بينهما من جهة النظر والاعتبار حيث قال رحم الله أمرأ أخذ لنفسه واستعد لرمسه وعلم من اين وفى اين وإلى أين فاقتصر المليون على ما يتعلق بمعرفة الصانع وصفانه وأفعاله وما يتفرع على ذلك من النبوة والمعاد وسائر مالا سبيل للعقل باستقلاله وما يترتب عليه إثبات ذلك من الأحوال المختصة بالجواهر والأعراض أو الشاملة لأكثر الموجودات فجاءت أبواب الكلام خمسة هي الأمور العامة والأعراض والجواهر والإلهيات والسمعيات وقد جرت العادة بتصديرها بمباحث تجري مجرى السوابق لها تسمى بالمباديء فرتبنا الكتاب على ستة مقاصد ووجه الضبط أن المذكور فيه أن كان من مقاصد الكلام فإما سمعيات هو المقصد السادس أو عقليات مختص بالواجب وهو الخامس أو بالممكن الجوهر وهو الرابع أو العرض وهو الثالث أولا مختص بواحد وهو الثاني وإن لم يكن من مقاصد الفن فهو المقصد الأول من الكتاب ووجه الترتيب توقف اللاحق على السابق في بعض البينات وقد يقتضى الضبط والمناسبة إيراد شيء من مباحث تأتي في الآخر كمسئلة الرؤية في الإلهيات وإعادة المعدوم في السمعيات قال المقصد الأول أقول رتبه على ثلاثة فصول لأن المبادي منها ما رأوا تصدير كل علم بها كمعرفة حده وموضوعه وغايته ونحو ذلك فسماها بالمقدمات وجعلها في فصل ومنها ما صدروا بها علم الكلام خاصة كمباحث العلم والنظر لأن تحصيل العقائد بطريق النظر والاستدلال والرد على منكري حصول العلم أصلا واستفادته من النظر مطلقا أو في الإلهيات خاصة يتوقف على ذلك وليس في العلوم الإسلامية ما هو أليق ببيانه فجعلها في فصلين قال الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أقول حصول الكيفيات النفسانية في النفس قد يكون بأعيانها وهو اتصاف بها وقد يكون بصورها وهو تصور لها كالكريم يتصف بالكرم وإن لم يتصوره وغير الكريم يتصوره وإن لم يتصف به ولا خفاء في أن حقيقة كل علم من الكلام وغيره تصورات وتصديقات
صفحه ۵
كثيرة يطلب حصولها بأعيانها بطريق النظر والاستدلال فاحتيج إلى ما يفيد تصورها بصورة إجمالية تساويها صونا للطلب والنظر عن إخلال بما هو منها واشتغال بما ليس منها وذلك هو المعنى بتعريف العلم فكان من مقدماته وإنما كثر تركه سيما في العلوم الشرعية والأدبية لما شاع من تدوين العلوم بمسائلها ودلائلها وتفسير ما يتعلق بها من التصورات ثم تحصيلها كذلك بطريق التعلم من المعلم أو التفهم من الكتاب إذا تقرر هذا فنقول الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ومشاهدة الآثار مع قلة الوقائع والاختلافات وسهولة المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا وتكثير المسائل فروعا وأصولا إلى أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرت الفتاوى والواقعات ومست الحاجة فيها إلى زيادة نظر والتفات فأخذ أرباب النظر والاستدلال في استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام وأقبلوا على تمهيد أصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينها وتدوين المسائل بأدلتها والشبه بأجوبتها وسموا العلم بها فقها وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها وبعلم الكلام لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم الكلام في كذا وكذا ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسئلة كلام الله تعالى أنه قديم أو حادث ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم مالم يكثر في غيره ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات فظهر أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم سواء توقف على الشرع أم لا وسواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالفين وصار قولنا هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة أن الفقه معرفة النفس مالها وما عليها وأن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية وعلم الله تعالى وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالاعتقاديات وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن وسمي في ذلك الزمان بهذا الاسم كما أن علمهم
صفحه ۶
بالعمليات فقه وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية أو كان ملكة يتعلق بها بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد على ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة وإلى المعنى الأخير يشير قول المواقف أنه علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ومعنى إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي من التقليد إلى التحقيق أو إثباتها على الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين أو اتقانها وإحكامها بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين وعدل عن يقتدر به إلى يقتدر معه مبالغة في نفي الأسباب واستناد الكل إلى خلق الله تعالى ابتداء على ما هو المذهب وأورد على طرد تعريفه جميع العلوم الحاصلة عند الاقتدار من النحو والمنطق وغيرهما وعلى عكسه علم الكلام بعد إثبات العقائد لانتفاء الاقتدار حينئذ والجواب أن المراد هو علم يحصل معه الاقتدار البتة بطريق جري العادة أي يلزمه حصول الاقتدار لزوما عاديا وإن لم يبق الاقتدار دائما ولا خفاء في أن الكلام كذلك بخلاف سائر العلوم وأما مجموع العلوم التي من جملتها الكلام فهو وإن كان كذلك فليس بعلم واحد بل علوم جمة وقد يجاب بأن المراد ماله مدخل في الاقتدار أو ما يلزم معه الاقتدار ولو على بعض التقادير والكلام بعد الإثبات بهذه الحيثية بخلاف سائر العلوم ويعترض بأن للمنطق مدخلا في الاقتدار وإن لم يستقل به والاقتدار لازم مع كل علم على تقدير مقارنته للكلام نعم لو أريد ما يلزم معه الاقتدار في الجملة بحيث يكون له مدخل في ذلك خرج غير المنطق وفيما ذكرنا غنية عن هذا مع أن في إثبات المدخل إشعارا بالسببية ولو قال يقتدر به وأراد الاستعقاب العادي كما في إثبات العقائد بإيراد الحجج على ما هو المذهب في حصول النتيجة عقيب النظر لم يحتج إلى شيء من ذلك قال وموضوعه المعلوم أقول اتفقت كلمة القوم على أن تمايز العلوم في أنفسها إنما هو بحسب تمايز الموضوعات فيناسب تصدير العلم ببيان الموضوع إفادة لما به يتميز بحسب الذات بعدما أفاد التعريف التمييز بحسب المفهوم وأيضا في معرفة جهة الوحدة للكثرة المطلوبة إحاطة بها إجمالا بحيث إذا قصد تحصيل تفاصيلها لم ينصرف الطلب عما هو منها إلى ما ليس منها ولا شك أن جهة وحدة مسائل العلم أولا وبالذات هو الموضوع إذ فيه اشتراكها وبه اتحادها على ما سنفصله وتحقيق المقام أنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأشياء بقدر الطاقة البشرية على ما هو المراد بالحكمة وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وغيرها كالإنسان والحيوان والموجود وبحثوا عن أحوالها المختصة وأثبتوها لها بالأدلة فحصلت لهم قضايا كسبية محمولاتها أغراض ذاتية لتلك الحقائق سموها بالمسائل وجعلوا كل طائفة منها يرجع إلى واحد من تلك الأشياء بأن تكون موضوعاتها نفسه أو جزأ له أو نوعا منه أو عرضا ذاتيا له
صفحه ۷
علما خاصا يفرد بالتدوين والتسمية والتعليم نظرا إلى ما لتلك الطائفة على كثرتها واختلاف محمولاتها من الاتحاد من جهة الموضوع أي الاشتراك فيه على الوجه المذكور ثم قد يتحد من جهات أخر كالمنفعة والغاية ونحوهما ويؤخذ لها من بعض تلك الجهات ما يفيد تصورها إجمالا ومن حيث أن لها وحدة فيكون حدا للعلم إن دل على حقيقة مسماه أعني ذلك المركب الاعتباري كما يقال هو علم يبحث فيه عن كذا أو علم بقواعد كذا وإلا فرسما كما يقال هو علم يقتدر به على كذا أو يحترز عن كذا أو يكون آلة لكذا فظهر أن الموضوع هو جهة وحدة مسائل العلم الواحد نظرا إلى ذاتها وإن عرضت لها جهات أخر كالتعريف والغاية فإنه لا معنى لكون هذا علما وذاك علما آخر سوى أنه يبحث هذا عن أحوال شيء وذلك عن أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار فلا يكون تمايز العلوم في أنفسها وبالنظر إلى ذواتها إلا بحسب الموضوع وإن كانت تتمايز عند الطالب بما لها من التعريفات والغايات ونحوهما ولهذا جعلوا تباين العلوم وتناسبها وتداخلها أيضا بحسب الموضوع بمعنى أن موضوع أحد العلمين إن كان مباينا لموضوع الآخر من كل وجه فالعلمان متباينان على الإطلاق وإن كان أعم منه فالعلمان متداخلان وإن كان موضوعهما شيئا واحدا بالذات متغايرا بالاعتبار أو شيئين متشاركين في جنس أو غيره فالعلمان متناسبان على تفاصيل ذكرت في موضعها وبالجملة فقد أطبقوا على امتناع أن يكون شيء واحد موضوعا لعلمين من غير اعتبار تغاير بأن يؤخذ في أحدهما مطلقا وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر وامتناع أن يكون موضوع علم واحد شيئين من غير اعتبار اتحادهما في جنس أو غاية أو غيرهما إذ لا معنى لاتحاد العلم واختلافه بدون ذلك لا يقال العلم مختلف باختلاف المعلوم أعني المسائل وهي كما تختلف باختلاف الموضوع فكذا تختلف باختلاف المحمول فلم لم يجعل هذا وجه التمايز بأن يكون البحث عن بعض من الأعراض الذاتية علما ومن بعض آخر علما آخر مع اتحاد الموضوع على أن هذا أقرب بناء على كون الموضوع بمنزلة المادة وهي مأخذ للجنس والأعراض الذاتية بمنزلة الصورة وهي مأخذ للفصل الذي به كمال التميز لأنا نقول حينئذ لا ينضبط أمر الاتحاد والاختلاف ويكون كل علم علوما جمة ضرورة اشتماله على أنواع جمة من الأعراض الذاتية مثلا يكون الحساب علوما متعددة بتعدد محمولات المسائل من الزوج والفرد وزوج الزوج وزوج الفرد إلى غير ذلك وكذا سائر العلوم والغلط إنما نشأ من عدم التفرقة بين العلم بمعنى الصناعة أعني جميع المباحث المتعلقة لموضوع ما وبين العلم بمعنى حصول الصورة ولو أريد هذا لكان كل مسئلة علما على حدة وأيضا مبنى الاتحاد والاختلاف وما يتبعه من التباين والتناسب والتداخل يجب أن يكون أمرا معينا بينا أو مبينا وذلك هو الموضوع إذ لا ضبط للأعراض الذاتية ولا حصر بل لكل
صفحه ۸
أحد أن يثبت ما استطاع وإنما يتبين بتحققها في العلم نفسه ولهذا كانت حدودها في صدر العلم حدودا اسمية ربما تصير بعد إثباتها حدودا حقيقية بخلاف حدود الموضوع وأجزائه فإنها حقيقية وأما حديث المادة والصورة فكاذب لأن كلا من الموضوع والمحمول جزء مادي من القضية وإنما الصوري هو الحكم على أن الكلام ليس في المسئلة بل في المركب الاعتباري الذي هو العلم ولإخفاء في أن المسائل مادة له ومرجع الصورة إلى جهة الاتحاد إذ بها تصير المسائل تلك الصناعة المخصوصة فإن قلت اشتراط تشارك موضوعات العلم الواحد في جنس أو غيره لا يدفع اختلال أمر اتحاد العلم واختلافه إذ قلما يخلو موضوعا العلمين عن تشارك في ذاتي أو عرضي أقله الوجود بل مثل الحساب والهندسة الباحثين عن العدد والمقدار الداخلين تحت جنس هو الكم لا يجعل علما واحدا بل علمين متساويين في الرتبة بخلاف علم النحو الباحث عن أنواع الكلمة قلت إذا كان البحث عن الأشياء من جهة اشتراكها في ذلك الأمر ومصداقه أن يقع البحث عن كل ما يشاركها في ذلك فالعلم واحد وإلا فمتعدد ألا ترى أن الحساب والهندسة لا ينظران في الزمان الذي هو من أنواع الكم وإلى هذا يشير كلام الشفاء أن كلا من الحساب والهندسة إنما يجعل علما على حدة لكونه ناظرا فيما يعرض لموضوعه من حيث هو وهو العدد للحساب والمقدار للهندسة ولو كانا ينظران فيهما من جهة ما هو كم لكان موضوع كل منهما الكم أو كان العلمان علما واحدا ولو نظر كل منهما في موضوعه من حيث هو موجود لما تميزا عن الفلسفة الأولى فإن قلت كما صرحوا بكون الموضوع من المقدمات فقد صرحوا بكونه جزأ من العلم على حدة وبكونه من مباديه التصورية فما وجه ذلك قلت أرادوا أن التصديق بهلية ذات الموضوع كالعدد في الحساب جزء منه بدليل تعليلهم ذلك بأن ما لا يعلم ثبوته كيف يطلب ثبوت شيء له وتصوره من المبادي التصورية والتصديق بموضوعيته من المقدمات وأما تصور مفهوم الموضوع أعني ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية ففي صناعة البرهان من المنطق فهذه أمور أربعة ربما يقع فيه الاشتباه وإنما لم يجعلوا التصديق بهلية الموضوع من المبادي التصديقية كما جعلوا تصوره من المبادي التصورية لأنهم أرادوا بها المقدمات التي منها تتألف قياسات العلم وإنما لم يجعل التصديق بالموضوعية من الأجزاء المادية لأنه إنما يتحقق بعد كمال العلم فهو بثمراته أشبه منه بأجزائه مثلا إذا قلنا العدد موضوع الحساب لأنه إنما ينظر في أعراضه الذاتية لم يتحقق ذلك إلا بعد الإحاطة بعلم الحساب فكان التصديق بالموضوعية إجمالا من سوابق العلم وتحقيقا من لواحقه وينبغي أن يعلم أن لزوم هذه الأمور إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه والأصول وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع
صفحه ۹
واصطلاحات وتنبيهات متعلقة بأمر واحد من غير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع بأدلة مبينة على مقدمات وإنما أطنبنا بإيراد هذه المباحث مع أنها في نظر صناعة البرهان من قبيل الواضحات لما تطرقت إليها بعد انعدام قواعد الصناعات الخمس من الشبهات إذا تقرر هذا فنقول موضوع علم الكلام هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية لما أنه يبحث عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والقدرة والإرادة وغيرها وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركب من الأجزاء وقبول الفناء ونحو ذلك مما هو عقيدة إسلامية أو وسيلة إليها وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم وهو كالموجود بين الهلية والشمول لموضوعات سائر العلوم الإسلامية فيكون الكلام فوق الكل إلا أنه أوثر على الموجود ليصح على رأي من لا يقول بالموجود الذهني ولا يفسر العلم بحصول الصورة في العقل ويرى مباحث المعدوم والحال من مسائل الكلام فإن قيل إن أريد بالمعلوم أو الموجود مفهومه فكثير من محمولات المسائل بل أكثرها أخص منه وهو ظاهر وإن أريد معروضه فأعم كرؤية الصانع وقدم كلامه وحدوث الجسم ونحو ذلك ولا خلاف في أن الأخص لا يكون عرضا ذاتيا والأعم لا يستعمل على عمومه كالمساواة العارضة للعدد بواسطة الكم لا يستعمل في الحساب إلا بعد التخصيص بالمساواة العددية وإنما الخلاف في أنه قبل التخصيص هل يسمى عرضا ذاتيا أم لا قلنا لزوم الاختصاص ليس بالنظر إلى موضوع المسئلة بل موضوع العلم أعم من أن يكون على الإطلاق أو التقابل كالعدد لا يخلو عن الزوجية والفردية ألا يرى أن الزوج يحمل على مضروب الفرد في الزوج مع كونه أعم منه قال في الشفاء العرض الذاتي قد يكون مساويا للموضوع كمساواة الزوايا الثلاث لقائمتين للمثلث وقد يكون أخص منه مطلقا كالزوج للعدد أو من وجه كالمساواة للعدد فإنها عرض ذاتي له لكون جنسه وهو الكم مأخوذا في حدها ثم أنهما قد يوجدان معا وقد يوجد العدد بدونها وهو ظاهر وبالعكس كما في المقادير وقد يكون أعم منه مطلقا كالزوج لمضروب الفرد في الزوج قال ومسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية أقول قد يجعل من مقدمات العلم تصور مسائله إجمالا لإفادته زيادة التميز وقيد القضايا بالنظرية لأنه لم يقع خلاف في أن البديهي لا يكون من المسائل والمطالب العملية بل لا معنى للمسئلة إلا ما يسأل عنه ويطلب بالدليل نعم قد يورد في المسائل الحكم البديهي ليبين لميته وهو من هذه الحيثية كسبي لا بديهي وقد تجعل الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وأحكام بينة تفتقر إلى تنبيه هي مسائلها وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في تجريد المنطق من أن المسائل ما يبرهن عليها في العلم إن لم تكن بينة قال وغايته ما يتأدى إليه الشيء ويترتب عليه يسمى من هذه الحيثية غاية ومن حيث يطلب بالفعل غرضا ثم إن كان مما يتشوقه الكل طبعا
صفحه ۱۰
يسمى منفعة فيصدر العلم بذكر غايته ليعلم أنه هل يوافق غرضه أم لا ولئلا يكون نظره عبثا أو ضلالا ومنفعته ليزداد طالبه جدا ونشاطا وغاية الكلام أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنا محكما لا تزلزله شبه المبطلين ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الاعتقاد قال فهو أشرف العلوم أقول لما تبين أن موضوعه أعلى الموضوعات ومعلومه أجل المعلومات وغايته أشرف الغايات مع الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه وابتناء سائر العلوم الدينية عليه والإشعار بوثاقة براهينه لكونها يقينيات يتطابق عليها العقل والشرع تبين أنه أشرف العلوم لأن هذه جهات شرف العلم وما نقل عن السلف من الطعن فيه فمحمول على ما إذا قصد التعصب في الدين وإفساد عقايد المبتدين والتوريط في أودية الضلال بتزيين ما للفلسفة من المقال قال والمتقدمون أقول آخر هذه المباحث مع تعلقها بالموضوع محافظة على انتظام الكلام في بيان الموضوع والمسائل والغاية فالمتقدمون من علماء الكلام جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود لرجوع مباحثه إليه على ما قال الإمام حجة الإسلام أن المتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود فيقسمه إلى قديم ومحدث والمحدث إلى جوهر وعرض والعرض إلى ما يشترط فيه الحياة كالعلم والقدرة وإلى ما لا يشترط كاللون والطعم ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض وينظر في القديم فيتبين أنه لا يتكثر ولا يتركب وأنه يتميز عن المحدث بصفات تجب له وأمور تمتنع عليه وأحكام تجوز في حقه من غير وجوب أو امتناع ويبين أن أصل الفعل جائز عليه وأن العالم فعله الجائز فيفتقر بجوازه إلى محدث وأنه قادر على بعث الرسل وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا واقع وحينئذ ينتهي تصرف العقل ويأخذ في التلقي من النبي عليه السلام الثابت عند صدقه ومقبول ما يقوله في الله تعالى وفي أمر المبدأ والمعاد ولما كان موضوع العلم الآلهي من الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وكان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات قيد الموجود ههنا بحيثية كونه متعلقا للمباحث الجارية على قانون الإسلام فتميز الكلام عن الإلهي بأن البحث فيه إنما يكون على قانون الإسلام أي الطريقة المعهودة المسماة بالدين والملة والقواعد المعلومة قطعا من الكتاب والسنة والإجماع مثل كون الواحد موجدا للكثير وكون الملك نازلا من السماء وكون العالم مسبوقا بالعدم وفانيا بعد الوجود إلى غير ذلك من القواعد التي يقطع بها في الإسلام دون الفلسفة وإلى هذا أشار من قال الأصل في هذا العلم التمسك بالكتاب والسنة أي التعلق بهما وكون مباحثه منتسبة إليهما جارية على قواعدهما على ما هو معنى انتساب العقائد إلى الدين وقيل المراد بقانون الإسلام
صفحه ۱۱
أصوله من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها وبالجملة فحاصله أن يحافظ في جميع المباحث على القواعد الشرعية ولا يخالف القطعيات منها جريا على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة لا أن يكون جميع المباحث حقة في نفس الأمر منتسبة إلى الإسلام بالتحقيق وإلا لما صدق التعريف على كلام المجسمة والمعتزلة والخوارج ومن يجري مجراهم وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأن قانون الإسلام ما هو الحق من مسائل الكلام فإن أريد الحقية والانتساب إلى الإسلام بحسب الواقع لم يصلح هذا القيد لتميز الكلام عن غيره لأنه ليس لازما بينا إذ كل من المتكلم وغيره يدعي حقية مقاله ولم يصدق التعريف على كلام المخالف لبطلان كثير من قواعده مع أنه كلام وفاقا وإن أريد بحسب اعتقاد الباحث حقا كان أو باطلا لم يتميز الكلام بهذا القيد عن الإلهى لاشتراكهما في ذلك قال فإن قيل أقول أعترض في المواقف على كون موضوع الكلام هو الموجود من حيث هو بأنه قد يبحث عن أحوال مالا يعتبر وجوده وإن كان موجودا كالنظر والدليل وعن أحوال مالا وجود له أصلا كالمعدوم والحال ولا يجوز أن يؤخذ الموجود أعم من الذهني والخارجي ليعم الكل لأن المتكلمين لا يقولون بالوجود الذهني والجواب أنا لا نسلم كون هذه المباحث من مسائل الكلام بل مباحث النظر والدليل من مباديه على ما قررنا وبحث المعدوم والحال من لواحق مسئلة الوجود توضيحا للمقصود وتتميما له بالتعرض لما يقابله لا يقال بحث إعادة المعدوم واستحالة التسلسل ونفي الهيولي وأمثال ذلك من المسائل قطعا لأنا نقول هي راجعة إلى أحوال الموجود بأنه هل يعاد بعد العدم وهل يتسلسل إلى غير النهاية وهل يتركب الجسم من الهيولي والصورة ولو سلم أنها من المسائل فإنما يريد ما ذكرتم لو أريد بالموجود من حيث هو الموجود في الخارج بشرط اعتبار وجوده وليس كذلك بل الموجود على الإطلاق ذهنيا كان أو خارجيا واجبا أو ممكنا جوهرا أو عرضا إلى غير ذلك فباحث النظر والدليل من أحوال الوجود العيني وإن لم يعتبر والبواقي من أحوال الوجود الذهني وكثير من المتكلمين يقولون به على ما يصرح بذلك كلامهم ومن لم يقل فعليه العدول إلى المعلوم (قال وقيل) أقول ذهب القاضي الأرموي من المتأخرين إلى أن موضوع الكلام ذات الله تعالى لأنه يبحث عن صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا ككيفة صدور العالم عنه بالاختبار وحدوث العالم وخلق الأعمال وكيفية نظام العالم كالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة كبحث المعاد وسائر السمعيات فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة
صفحه ۱۲
وتبعه صاحب الصحايف إلا أنه زاد فجعل الموضوع ذات الله تعالى من حيث هي وذات الممكنات من حيث استنادها إلى الله تعالى لما أنه يبحث عن أوصاف ذاتية لذات الله تعالى من حيث هي وأوصاف ذاتية لذات الممكنات من حيث أنها محتاجة إلى الله تعالى وجهة الوحدة هي الموجود وكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع وأحوال الممكنات من حيث احتياجها إليه على قانون الإسلام وينبغي أن يكون هذا معنى ما قال هو العلم الباحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام وإلا فلا معنى للبحث عن نفس الموضوع لكنه أجاب بأن المراد بذات الله تعالى في التعريف الذات من حيث الصفات كالذات من حيث عدم التركيب والجوهرية والعرضية والبحث عنها من قبيل المسائل كالبحث عن نفس الصفات والموضوع هو الذات من حيث هي ولا بحث عنها في العلم وهذا يشعر بأن المحمول في قولنا الواجب ليس بجوهر ولا عرض هو ذات الله تعالى من حيث عدم الجوهرية والمعرضية فإن قيل لو كان الموضوع ذات الله تعالى وحده أو مع ذات الممكنات من حيث الاستناد إليه لما وقع البحث في المسائل إلا عن أحوالها واللازم باطل لأن كثيرا من مباحث الأمور العامة والجواهر والأعراض بحث عن أحوال الممكنات لا من حيث استنادها إلى الواجب قلنا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستطراد قصدا إلى تكميل الصناعة بأن يذكر مع المطلوب ماله نوع تعلق به من اللواحق والفروع والمقابلات وما أشبه ذلك كمباحث المعدوم والحال وأقسام الماهية والحركات والأجسام أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف قصدا إلى تزييفه كبحث علة اليقين والآثار العلوية والجواهر المجردة أو على سبيل المبدائية بأن يتوقف عليه بعض المسائل فيذكر لتحقيق المقصود بأن لا يتوقف بيانه على ما ليس ببين كاشتراك الوجود واستحالة التسلسل وجواز كون الشيء قابلا وفاعلا وإمكان الخلاء وتناهي الأبعاد وأما ما سوى ذلك فيكون من فضول الكلام يقصد به تكثير المباحث كما اشتهر فيما بين المتأخرين من خلط كثير من مسائل الطبيعي والرياضي بالكلام فإن قيل لا يجوز أن يكون للكلام مبادي يفتقر إلى البيان ويثبت بالبرهان لأن مبادي العلم إنما تتبين في علم أعلى منه وليس في العلوم الشرعية ما هو أعلى من الكلام بل الكل جزئي بالنسبة إليه ومتوقف بالآخرة عليه فمباديه لا تكون إلا بينة بنفسها قلنا ما يبين فيه مبادي العلم الشرعي لا يجب أن يكون علما أعلى ولا أن يكون علما شرعيا للإطباق على أن علم الأصول يستمد من العربية ويبين فيها بعض مباديه وتفصيل ذلك على ما هو المذكور في الشفاء وغيره أن مبادي العلم قد تكون بينة بنفسها فلا تبين في علم أصلا وقد تكون غير بينة فتبين في علم أعلى بجلالة محله عن أن يبين في ذلك العلم كقولنا الجسم مؤلف من الهيولي والصورة فإنه من مبادي الطبيعي ومن مسائل الفلسفة الأولى أو في علم أدنى لدنو شأنه عن أن يبين في ذلك
صفحه ۱۳
العلم كامتناع الجزء الذي لا يتجزأ فإنه من مسائل الطبيعي ومن مبادي الإلهى لإثبات الهيولي والصورة فيجب أن تبين بمقدمات لا تتوقف صحتها عليها لئلا يلزم الدور وقد يبين في ذلك العلم نفسه بشرط أن لا يكون مبدأ لجميع مسائله وأن لا يبين بمسئلة تتوقف عليه لئلا يدور فهذا يكون مبدأ باعتبار ومسئلة باعتبار كأكثر مسائل الهندسة وككون الأمر للوجوب فإنه مسئلة من الأصول ومبدأ المسئلة وجوب القياس تمسكا بقوله تعالى فاعتبروا ولا يخفى أنه يجب في هذا القسم أن يكون بحثا عن أحوال موضوع الصناعة ليصح كونه من مسائلها فما نحن فيه أعني البحث عن أحوال الممكنات لا على وجه الاستناد لا يكون من هذا القبيل فتعين البيان في علم أدنى أو أعلى فيثبت هذا المبدأ بدليل قطعي من غير مخالفة للقواعد الشرعية وإن لم يعد ذلك العلم من العلوم الإسلامية كالإلهي الباحث عن أحوال الموجود على الإطلاق وههنا شيء آخر وهو أن المفهوم من شرح الصحايف أن ليس معنى البحث عن أحوال الممكنات على وجه الاستناد أن يكون ذلك ملاحظا في جميع المسائل بل أن يكون البحث عن أحوال تعرض للممكنات من جهة استنادها إلى الله تعالى فإن أحوال الممكنات التي يبحث عنها في الكلام أحوال مخصوصة معلومة بحكم فيضانها عن تأثر قدرة الله تعالى وذلك إنما يكون لحاجتها إلى الله تعالى فيكون عروضها للممكنات ناشئا عن جهة حاجتها إليه (قال واعترض) أقول لما كان من المباحث الحكمية مالا يقدح في العقايد الدينية ولم يناسب غير الكلام من العلوم الإسلامية خلطها المتأخرون بمسائل الكلام إفاضة للحقايق وإفادة لما عسى أن يستعان به في التقصي عن المضايق وإلا فلا نزاع في أن أصل الكلام لا يتجاوز مباحث الذات والصفات والنبوة والإمامة والمعاد وما يتعلق بذلك من أحوال الممكنات فلذا اقتصر القوم في إبطال كون موضوع الكلام ذات الله وحده أو مع ذات الممكنات من جهة الاستناد على أنه لو كان كذلك لما كان إثباته من مطالب الكلام لأن موضوع العلم لا يبين فيه بل في علم أعلى إلى أن ينتهي إلى ما موضوعه بين الثبوت كالموجود وذلك لأن حقيقة العلم إثبات الأعراض الذاتية للشيء على ما هو معنى الهلية المركبة ولا خفاء في أنها بعد الهلية البسيطة لأن مالا يعلم ثبوته لا يطلب ثبوت شيء له لكن لا نزاع في أن إثبات الواجب بمعنى إقامة البرهان على وجوده من أعلى مطالب الكلام ثم كونه مبدأ الممكنات بالاختيار أو الإيجاب بلا وسط في الكل أو بوسط في البعض بحث آخر والقول بأن إثباته إنما هو من مسائل الإلهي دون الكلام ظاهر الفساد وإلا لكان هو أحد العلوم الإسلامية بل رئيسها ورأسها ومبنى القواعد الشرعية وأساسها وأجاب بعضهم بأنه جاز ههنا إثبات الموضوع في العلم لوجهين الأول أن الوجود من أعراضه الذاتية لكونه واجب الوجود بخلاف سائر العلوم فإن الوجود إنما يلحق موضوعاتها لأمر مباين وكان هذا مراد من قال
صفحه ۱۴
موضوع العلم إنما لا يبين فيه إذا كان البحث فيه عن الأحوال التي هي غير الوجود وإلا فهذه التفرقة مما لا يشهد به عقل ولا نقل بل ليس لها كثير معنى فإن قيل هذا لا يصح على رأي من يجعل الوجود نفس الماهية وهو ظاهر ولا على رأي من يجعله زايدا مشتركا لأن العرض الذاتي يكون مختصا قلنا سواء كان ذاته نفس الوجود أو غيره فإما أن يكون هناك قضية كسبية محمولها الموجود في الخارج بطريق الوجوب فيتم الجواب أو لا فيسقط أصل الاعتراض الثاني لا علم شرعي فوقه يبين فيه موضوعه فلا بد من بيان فيه وفيه نظر أما أولا فلأنه ليس من شرط العرض الذاتي أن لا يكون معلوما للغير بل أن لا يكون لحوقه للشيء بتوسط لحوقه لأمر خارج غير مساو للاتفاق على كون الصحة والمرض عرضا ذاتيا للإنسان والحركة والسكون للجسم والاستقامة والانحناء للخط إلى غير ذلك وأما ثانيا فلأنه يلزم أن لا يكون بيان وجود شيء من الممكنات مسئلة في شيء من العلوم فلا يصح أن موضوع العلم إنما يبين وجوده في علم أعلى وأما ثالثا فلأن قولهم موضوع العلم لا يبين فيه بعد تقدير أنه لا يثبت في العلم غير الأعراض الذاتية للموضوع يكون لغوا من الكلام لأن ما وجوده عرض ذاتي يبين فيه وما لا يبين ليس بعرض ذاتي وأما رابعا فلأنه لا يبقى قولهم لكل علم موضوع ومباد ومسائل على عمومه لأن معناه التصديق بانية الموضوع وهلية البسيطة وقد صار في علم الكلام من جملة المسائل وأما خامسا فلأن تصاعد العلوم إنما هو بتصاعد الموضوعات فلا معنى لكون علم أعلى من آخر سوى أن موضوعه أعم فينبغي أن يؤخذ موضوع علم الكلام الموجود أو المعلوم وإلا فالإلهي أعلى منه رتبة وإن كان هو أشرف من جهة وقد عرفت أن ما يبين فيه موضوع علم شرعي أو مباديه لا يلزم أن يكون علما شرعيا بل يكفي كونه تعينيا وعلى وفق الشرع فإن قيل فقد آل الكلام إلى أن لوجود المخصص لموضوع الصناعة وإن كان من أعراضه الذاتية لا يبين فيها لكون نظرها مقصورا على بيان هليته المركبة بل يكون مسلما في نظرها لكونه بينا أو مبينا في صناعة أعلى وحينئذ يتوجه الإشكال بأن بيانه هناك لا يكون من الهلية المركبة وموضوع هذا العرض الذاتي لا يكون مما هو مسلم الوجود قلنا موضوع الصناعة الأعلى أعم ووجوده لا يستلزم وجود الأخص فيبين فيها وجود الأخص بأن يبين انقسام الأعم إليه وإلى غيره وأنه يوجد له هذا القسم ويكون ذلك عائدا إلى الهلية المركبة للأعم مثلا يبين في الإلهي أن بعض الموجود جسم فتبين وجود الجسم وفي الطبيعي أن بعض الجسم كرة فيبين وجود الكرة وعلى هذا القياس وربما يتنبه الفطن من هذا الكلام لنكتة قادحة في بعض ما سبق قال الفصل الثاني في العلم ذهب الإمام الرازي إلى أن تصور العلم بديهي لوجهين الأول أنه معلوم يمتنع اكتسابه أما المعلومية فبحكم الوجدان وأما امتناع الاكتساب فلأنه إنما يكون بغيره معلوما
صفحه ۱۵
ضرورة امتناع اكتساب الشيء بنفسه أو بغيره مجهولا والغير إنما يعلم بالعلم فلو علم العلم بالغير لزم الدور فتعين طريق الضرورة وهو المط الثاني إن علم كل أحد بوجوده بديهي أي حاصل من غير نظر وكسب وهذا علم خاص مسبوق لمطلق العلم لتركبه منه ومن الخصوصية والسابق على البديهي بديهي بل أولى بالبداهة فمطلق العلم بديهي وهو المط وأجيب عن الوجهين بأن مبناهما على عدم التفرقة بين تصور العلم وحصوله أما الأول فلأن تصور العلم على تقدير اكتسابه يتوقف على تصور غيره وتصور الغير لا يتوقف على تصوره ليلزم الدور بل على حصوله بناء على امتناع حصول المقيد بدون المطلق حتى لو لم يقل بوجود الكلي في ضمن الجزئيات لم يتوقف على حصوله أيضا وعبارة المواقف أن الذي نحاول أن نعلمه بغير العلم تصور حقيقة العلم وقد تسامح حيث حاول العلم بتصور الحقيقة والأحسن ما في شرح المختصر أن الذي يراد حصوله بالغير تصور حقيقة العلم إلا أنه تسامح فيه أيضا حيث قال أن توقف تصور غير العلم إنما هو على حصول العلم به أعني علما جزئيا متعلقا بذلك الغير إذ لا معنى لتوقف الشيء على حصوله وأما الثاني فلأن البديهي لكل أحد ليس هو تصور العلم بأنه موجود بل حصول العلم بذلك وهو لا يستدعي تصور العلم به فضلا عن بداهته كما أن كل أحد يعلم أن له نفسا ولا يعلم حقيقتها فإن قيل لا معنى للعلم إلا وصول النفس إلى المعنى وحصوله فيها والعلم من المعاني النفسية فحصوله في النفس علم به وتصور له فإذا كان حصول العلم لوجوده بديهيا كان تصور العلم به بديهيا ويلزم منه أن يكون تصور مطلق العلم بديهيا وهو المطلوب وكذا إذا كان تصور الغير الذي يكتسب به تصور العلم متوقفا على حصول مطلق العلم كان متوقفا على تصوره وهو الدور قلنا قد سبق أن حصول المعاني النفسية في النفس قد يكون بأعيانها وهو المراد بالوجود والمتأصل وذلك اتصاف بها لا تصور لها وقد يكون بصورها وهو المراد بالوجود الغير المتأصل بمنزلة الظل للشجر وذلك تصور لها لاتصاف بها ألا يرى أن الكافر يتصف بالكفر بحصول الإنكار في نفسه وإن لم يتصوره ويتصور الإيمان بحصول مفهومه في نفسه من غير اتصاف به فحصول عين العلم بالشيء في النفس لا يكون تصورا لذلك العلم كما أن حصول مفهوم العلم بالشيء في النفس لا يكون اتصافا بالعلم به بل ربما يستلزمه نعم يكون ذلك اتصافا بالعلم بمفهوم العلم بناء على أن المفهوم حاصل بعينه فإن قيل في تقرير الإمام ما يدفع الجواب المذكور لأنه قرر الأول بأن اكتساب العلم يتوقف على حصول العلم بالغير وهو يستلزم إمكان العلم بأنه عالم بذلك الغير وعلى تقدير وقوع ذلك الممكن يلزم حصول العلم بالعلم الخاص قبل حصول العلم بمطلق العلم وهو محال واكتساب العلم يكون ملزوما لتصور الغير الملزوم لإمكان المحال فيكون محالا والثاني بأن علم كل أحد بأنه عالم بوجوده بديهي وعلمه بوجوده علم خاص ومتى كان العلم بالعلم الخاص بديهيا كان العلم بمطلق العلم بديهيا ولما كان مظنة
صفحه ۱۶
أن يقال العلم بأنه عالم تصديق وبداهته لا تستدعي بداهة تصوراته لأنه مفسر بما لا يتوقف بعد تصور طرفيه على نظر أشار إلى دفعه بأن هذا التصديق بديهي بمعنى أنه لا يتوقف على كسب ونظر أصلا لا في الحكم ولا في طرفيه سواء جعل تصور الطرفين شطرا له أو شرطا وذلك لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر والاكتساب كالبله والصبيان قلنا العلم بأنه عالم بالشيء تصديق وهو إنما يستدعي تصور الطرفين بوجه فلا يلزم تصور العلم بحقيقته مع أن الكلام فيه على أنه إن أراد أن العلم بالغير يستلزم إمكان العلم بأنه عالم به قبل اكتساب حقيقة العلم فغير مسلم أو في الجملة فغير مفيد لجواز أن يكون وقوع الممكن بعد الاكتساب قال ثم أكثر تعريفات العلم مدخوله كقولهم معرفة المعلوم على ما هو به إدراك المعلوم على ما هو به إثبات المعلوم على ما هو به اعتقاد الشيء على ما هو به ما يعلم به لا شئ ما يوجب كون من قام به عالما إلى غير ذلك ووجوه الخلل ظاهرة إلا أن ذلك عند الإمام حجة الإسلام لخفاء معنى العلم وعسر تحديده قال في المستصفى ربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية فكيف في الإدراكات وإنما يبين معناه بتقسيم ومثال أما التقسيم فهو أن تميزه عما يلتبس به وهي الاعتقادات ولا خفاء في غيره عن الشك والظن بالجزم وعن الجهل بالمطابقة فلم يبق إلا اعتقاد المقلد ويتميز عنه بأن الاعتقاد قد يبقى مع تغير متعلقه كما إذا اعتقد كون زيد في الدار ثم خرج زيد والاعتقاد بحاله بخلاف العلم فإنه يتغير بتغير المعلوم ولا يبقى عند اعتقاد انتفاء المتعلق لأنه كشف وانحلال في العقيدة والاعتقاد عقد على القلب ولهذا يزول بتشكيك المشكك بخلاف العلم وأما المثال فهو أن إدراك البصيرة شبيه بإدراك الباصرة فكما أنه لا معنى للإبصار إلا انطباع صورة المبصر أي مثاله المطابق في القوة الباصرة كانطباع الصورة في المرآة كذلك العقل بمنزلة مرآة تنطبع فيها صور المعقولات أي حقائقها وماهياتها على ما هي عليها والعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات في نفسه وانطباعها وحصولها فيه فالتقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم هذا كلامه فظهر انه يريد عسر تحديده بالحد الحقيقي لا ما يفيد امتيازه وتفهيم حقيقته وأن ذلك ليس ببعيد وأنه لا يريد بالمثال جزئيا من جزئياته كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين على ما فهمه البعض وقال الإمام الرازي تعريفات العلم لا تخلو عن خلل لأن ماهيته قد بلغت في الظهور إلى حيث لا يمكن تعريفه بشيء أجلى منه وإلى هذا ذهب كثير من المحققين حتى قال بعضهم أن ما وقع فيه من الاختلاف إنما هو لشدة وضوحه لا لخفائه قال ولا نزاع في اشتراك لفظه لفظ العلم يقال في الاصطلاح على معان منها إدراك العقل فيفسر بحصول صورة الشيء في العقل وسيجئ في بحث الكيفيات تحقيقه ودفع ما أورد عليه وبعضهم نظر إلى أن العلم صفة العالم والحصول صفة
صفحه ۱۷
الصورة فعدل إلى وصول النفس إلى المعنى أخذا مما ذكره الإمام وغيره أن أول مراتب وصول النفس إلى المعنى شعور فإذا حصل وقوف النفس على تمام ذلك المعنى فتصور فإذا بقي بحيث لو أراد استرجاعه بعد ذهابه أمكنه يقال له حفظ ولذلك الطلب تذكر ولذلك الوجدان ذكر وأنت خبير بأن حصول الصورة في العقل أيضا صفة العالم ومنها أحد أقسام التصديق وهو ما يقارن الجزم والمطابقة والثبات فيخرج الظن والجهل المركب والتقليد وسيجئ بيان ذلك ومنها ما يشمل تصور المطابق والتصديق اليقيني على ما هو الموافق للعرف واللغة ولهم فيه عبارتان (1) صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أي صفة ينكشف بها ما يذكر ويلتفت إليه انكشافا تاما لمن قامت به تلك الصفة إنسانا كان أو غيره وعدل عن الشيء إلى المذكور ليعم الموجود والمعدوم وقد يتوهم أن المراد به المعلوم لأن في ذكر العلم ذكر المعلوم وعدل إليه تفاديا عن الدور وبالجملة فقد خرج الظن والجهل إذ لا تجلي فيهما وكذا اعتقاد المقلد لأنه عقدة على القلب والتجلي انشراح وانحلال للعقدة (2) صفة توجب تمييزا في المعاني لا يحتمل النقيض أي صفة تستعقب لخلق الله تعالى لمن قامت به تمييزا في الأمور العقلية كلية كانت أو جزئية فيخرج مثل القدرة والإرادة وهو ظاهر وإدراك الحواس لأن تمييزه في الأعيان ومن جعله علما بالمحسوسات لم يذكر هذا القيد وخرج سائر الإدراكات لأن احتمال النقيض في الظن والشك والوهم ظاهر وفي الجهل المركب أظهر وكذا اعتقاد المقلد لأنه يزول بتشكيك المشكك بل ربما يتعلق بالنقيض جزما وقد يقال إن الجهل المركب ليس بتمييز وكذا التصور الغير المطابق كما إذا ارتسم في النفس من الفرس صورة حيوان ناطق وأما المطابق فداخل لأنه لا نقيض له بناء على أن في أخذ النقيض شائبة الحكم والتركيب ولا يخفى ما فيه ومنهم من قيد المعاني بالكلية ميلا إلى تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات فلا يرد ما ذكر في المواقف أن هذه الزيادة مع الغنى عنها محل نظر بطرد التعريف أي جريانه في جميع أفراد المعرف على ما ذكر ابن الحاجب أن اسم الفاعل يورد على طرد تعريف الاسم والفعل المضارع على عكسه قالوا وهذا مصطلح النحاة ثم الظاهر من قولنا تمييزا لا يحتمل النقيض أن يراد نقيض التمييز ولما لم يكن له كثير معنى ذهب بعضهم إلى أن المراد أنه صفة توجب التمييز إيجابا لا يحتمل النقيض وليس بشيء والحق اعتبار ذلك في متعلق التمييز على ما قالوا أن اعتقاد الشيء كذا مع أنه لا يكون إلا كذا علم ومع احتمال أن لا يكون كذا احتمالا مرجوحا ظن فالمعنى أنه صفة توجب للنفس تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ويدل على ذلك تقرير للنفس تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ويدل على ذلك تقرير اعتراضهم بالعلوم العادية مثل العلم بكون الجبل حجرا فإنه يحتمل النقيض بأن لا يكون حجرا بل قد انقلب ذهبا بأن يخلق الله تعالى مكان الحجر الذهب على ما هو رأي المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء الحجر الوصف الذي به صارت حجرا ويخلق فيه الوصف الذي به يصير
صفحه ۱۸
ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر في جميع الأجسام والجواب أن المراد بعدم احتمال النقيض في العلم هو عدم تجويز العالم إياه لا حقيقة ولا حكما أما في التصور فلعدم النقيض أو لأنه لا معنى لاحتمال النقيض بدون شائبة الحكم وأما في التصديق فلاستناد جزمه بالحكم إلى موجب بحيث لا يحتمل الزوال أصلا والعاديات كذلك لأن الجزم بها مستند إلى موجب هو العادة وإنما يحتمل النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه لم يلزمه منه محال لذاته لكونه في نفسه من الممكنات التي يجوز وقوعها أولا وقوعها وذلك كما يحكم ببياض الجسم المشاهد قطعا مع أنه في نفسه ممكن أن يكون وأن لا يكون والحاصل أن معنى احتمال النقيض تجويز الحاكم إياه حقيقة وحالا كما في الظن لعدم الجزم بمتعلقه أو حكما ومآلا كما في اعتقاد المقلد لعدم استناد الجزم به إلى موجب من حس أو عقل أو عادة فيجوز أن يزول بل يحصل اعتقاد النقيض جزما وبهذا يظهر الجواب عن بعض تفسير العلم باعتقاد المقلد سيما المطابق فإنه لا يحتمل النقيض في الواقع ولا عند الحاكم وهو ظاهر ولا عبرة بالإمكان العقلي كما في العاديات قال المبحث الثاني أقول قد اشتهر تقسيم العلم إلى التصور والتصديق واستبعده بعضهم لما بينهما من اللزوم إذ لا تصديق بدون التصور بل ذكروا أنه لا تصور بحسب الحقيقة بدون التصديق بالتحقيق وإنما الكلام في التصور بحسب الاسم فعدلوا إلى التقسيم إلى التصور الساذج أي المشروط بعدم الحكم وإلى التصديق وأجاب آخرون بأن اللزوم بحسب الوجود لا ينافي التقابل بحسب الصدق كما بين الزوج والفرد والحصر في التصور المقيد بعدم الحكم وفي التصديق ليس بتام لخروج تصور الطرفين وبالجملة فكلام القوم صريح في أن التصور المعتبر في التصديق هو التصور المقابل له وهو التصور لا بشرط الحكم أعني الذي لم يعتبر فيه الحكم لا الذي اعتبر فيه عدم الحكم وصرح الإمام والكاتبي بأن هذا هو المراد بالتصور الساذج والتصور فقط وحاصل التقسيم أن العلم إما أن يعتبر فيه الحكم وهو التصديق أولا وهو التصور ومعناه أن التصديق هو الحكم مع ما يتعلق به من التصورات على ما هو صريح كلام الإمام لا الإدراك المقيد بالحكم على ما سبق إلى الفهم من عبارته حيث يقول أنه الإدراك المقارن للحكم أو الإدراك الذي يلحقه الحكم كيف وأنه يذكر ذلك في معرض الاستدلال على كون التصور جزأ منه ثم أنه كثيرا ما يصرح بأنه عبارة عن نفس الحكم ويجعل الحكم تارة من قبيل الأفعال وتارة ماهية مسماة بالكلام النفسي ليست من جنس الاعتقاد ولا الإرادة والجمهور على أنه نفس الحكم وأنه نوع من العلم متميز عن التصور بحقيقته لا يتعلق إلا بالنسبة بخلاف التصور حيث يتعلق بها وبغيرها ألا ترى أنك إذا شككت في حدوث العالم فقد تصورت العالم والحادث والنسبة بينهما من غير حكم وتصديق ثم إذا أقيم البرهان
صفحه ۱۹
فقد علمت النسبة نوعا آخر من العلم وهو المسمى بالحكم والتصديق وحقيقته إذعان النفس وقبولها لوقوع النسبة أولا وقوعها ويعبر عنه بالفارسية بكر ويدن على ما صرح به ابن سينا وهذا ما قال في الشفاء التصور في قولك البياض عرض هو أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف وما يؤلف منه كالبياض والعرض والتصديق هو أن يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها والتكذيب يخالف ذلك وفي هذا الكلام إشارة إلى أن مدلول الخبر والقضية هو الصدق وإنما الكذب احتمال عقلي وليس فيه انحصار التصديق في المطابق كما توهم إذلا يلزم من حصول الشيء كالمطابقة مثلا في النفس تحققه في الواقع قوله والضرورة قاضية يعني أن كلا من التصور والتصديق ينقسم إلى النظري والضروري لأنا نجد في أنفسنا احتياج بعض التصورات والتصديقات إلى النظر كتصور الملك والجن والتصديق بحدوث العالم واستغناء بعضها عنه كتصور الوجود والعدم والتصديق بامتناع اجتماع النقيضين والمراد الاحتياج والاستغناء بالذات حتى يكون الحكم المستغنى في نفسه عن النظر ضروريا وإن كان طرفاه بالكسب على ما تقرر عند الجمهور من أن التصديق الضروري مالا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وكسب وعبارة المواقف وهو أن البعض ضروري بالوجدان والبعض نظري بالضرورة ربما يوهم أن الثاني ليس بالوجدان لكن المراد ما ذكرنا وفسر القاضي أبو بكر العلم الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى الانفكاك عنه سبيلا وقيد بالمخلوق لأن الضروري والنظري من أقسام العلم الحادث واعترض عليه بأن النفس قد تنفك عن العلم الضروري بأن يزول بعد الحصول لطريان شيء من أضداد العلم كالنوم والغفلة أو بأن لا يحصل أصلا لانتفاء شرط من شرائطه مثل التوجه وتصور الطرفين واستعداد النفس والإحساس والتجربة ونحو ذلك مما يتوقف عليه بعض الضروريات وأجيب بأن المراد أنه لا يقتدر على الانفكاك والانفكاك فيما ذكرتم من الصور ليس بقدرة المخلوق وهذا ما قال في المواقف أن عبارته مشعرة بالقدرة يعني يفهم من قولنا يجد فلان سبيلا إلى كذا أو لا يجد أنه يقتدر عليه أو لا يقتدر والحاصل إن إطلاق الضروري على العلم مأخوذ من الضرورة بمعنى عدم القدرة على الفعل والترك كحركة المرتعش ولذا قد يفسر بما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق إلا أن قيد الحصول مراد ههنا بقرينة جعل الضروري من أقسام العلم الحادث ومصرح في عبارة القاضي ليخرج العلم بمثل تفاصيل الأعداد والأشكال مما لا قدرة للعبد على تحصيله ولا على الانفكاك عنه فإن قيل يرد على طرد العبارتين العلم الحاصل بالنظر إذ لا قدرة حينئذ على تحصيله ولا على الانفكاك عنه أجيب عنه بأن المعتبر في الضروري نفي القدرة دائما وفي النظري إنما تنتفى القدرة بعد الحصول
صفحه ۲۰