فما يؤدي في بعض المسائل إلى ما يجوز في قليل من كلام العرب أولى مما يؤدي في جميع المسائل إلى ما لا يجوز في باب من الأبواب إلا في هذا الباب خاصة. وأيضا فإن أكثر السماع إنما ورد بإعمال الثاني وعليه نزل القرآن. قال الله تعالى: {آتونى أفرغ عليه قطرا} (الكهف: 96). فقطرا منصوب بأفرغ، فلو كان منصوبا بآتوني لكان: أفرغه عليه، وقال الله تعالى: {هآؤم اقرؤا كتبيه} (الحاقة: 19). فكتابيه منصوب باقرأوا ولو كان منصوبا بهاؤم لكان اقرأوه كتابيه.
فثبت بما ذكرنا أن الاختيار إعمال الثاني وأن إعمال الأول جائز ومنه قول الشاعر:
ولم أمدح لأرضيه بشعري
لئيما أن يكون أفاد مالا
فلئيما منصوب بأمدح بدليل الإضمار في قوله: لأرضيه.
وكذلك قول الآخر:
قطوب فما تلقاه إلا كأنما
زوى وجهه إن لاكه فوه حنظل
فأعمل في حنظل زوى ولذلك رفعه وأضمر للاكه مفعوله.
فإذن ثبت أنه يجوز إعمال الأول والثاني في هذا الباب، وإن كان الاختيار إعمال الثاني كما تقدم.
فينبغي أن يبين كيفية كل واحد منهما فأقول والله الموفق للصواب بمنه: لا يخلو أن تعمل في هذا الباب الأول أو الثاني، فإن أعملت الأول أضمرت في الثاني كل ما يحتاج إليه من مرفوع أو منصوب أو مخفوض. هذا هو الاختيار عندنا.
وقد يجوز لك أن تحذف معمول الثاني إذا لم يكن مرفوعا في ضرورة شعر كقوله:
بعكاظ يعشي الناظرين
إذا هم لمحوا شعاعه
فشعاعه فاعل بيعشي، ومفعول لمحوا محذوف تقديره: إذا هم لمحوه. وإن أعملت الثاني فلا يخلو (الأول من) أن يحتاج إلى مرفوع أو منصوب ومخفوض فإن احتاج إلى غير مرفوع فلا يخلو أن يكون مما يجوز حذفه أو لا يكون. فإن كان مما يجوز حذفه حذفته وذلك نحو: ضربت وضربني زيد، ولا يجوز إضماره قبل الذكر فتقول: ضربته وضربني زيد إلا في ضرورة شعر وذلك نحو قول الشاعر:
صفحه ۷۵