الشرح: قد مضى الكلام في كمية الغذاء، وهو الآن يتكلم في كيفيته. وينبغي أن نعرف أولا ماذا يعني بالرطب حتى يمكننا تعرف أن الأغذية الرطبة توافق جميع المحمومين أو ليس؛ فنقول: قد يعني بالرطب الجسم الذي يقبل الانفصال والاتصال والتشكل بسهولة، بحيث لا يظهر فيه ممانعة عن ذلك، كما يقال للهواء إنه رطب. وقد يعني به كون الجسم بطبعه متماسك، لكنه بأدنى سبب يصير بحيث يقبل الاتصال والانفصال والتشكل بسهولة، كما يقال للماء أنه رطب؛ فإنه بطبعه جامد لكنه بأدنى سبب يزول عنه الجمود فيصير قابلا للاتصال والانفصال والتشكل بسهولة. وقد يعني به كون الجسم الغالب في أجزائه الأجزاء الرطبة A كما يقال في الشحم أنه رطب، بمعنى أن الجوهر الرطب غالب عليه، فإن الشحم الغالب عليه الجزء المائي. وقد يعني به كون الشيء بحيث ما يتكون منه يكون رطبا، كما يقال في الدم أنه رطب، بمعنى أن العضو الذي يتكون منه يكون رطبا. وقد يعني به كون الشيء بحيث إذا ورد على بدن الإنسان وانفعل عن حرارته الغريزية أفاد البدن رطوبة زائدة على ما كانت له قبل ذلك، وهذا معنى قولنا للدواء أنه رطب. وقد يعني به كون الجسم أميل عن الاعتدال الحقيقي إلى الرطوبة، كما يقال إن الإناث أرطب من الذكران. وقد يعني به الممتزج الذي أعطى مزاجا هو أرطب مما ينبغي أن يكون له، كقولنا فلان (35) رطب المزاج. وقد نعني به كون الغذاء سريع الاستحالة إلى الخلط الرطب، كقولنا للغذاء التفه أنه رطب. قال جالينوس: والغذاء الرطب هو المفارق لكل كيفية، كأنه تفه. وكذلك فافهم الحال في اليابس على جميع هذه المعاني، إلا المعنى الثاني فإنه ليس في اليابس مقابل له مشهور، ويشبه أن B يكون قول الأوائل أن النار يابسة هو بالمعنى المقابل لذلك المعنى؛ وذلك لأن معنى كون الماء رطبا هو كونه بنفسه عسر القبول للانفصال والاتصال والتشكل، لكنه بأدنى سبب وهو التسخن يصير يقبل ذلك بسهولة. كذلك يشبه أن يكون كون النار يابسة هو أنها بنفسها سهلة القبول للانفصال والاتصال والتشكل لكنها بأدنى سبب وهو التبرد تصير بحيث تقبل ذلك بعسر؛ وذلك لأن النار إذا بردت صارت أجساما صلبة، ويدل على ذلك الصواعق؛كذلك الماء إذا سخن صار جسما لينا. وأما الحار فيقال على معان، أحدها: يقال حار بمعنى أن يحس من إحراق، كما يقال في النار أنها حارة. وبمعنى أنه يحس من حرافة، كقولنا: الفلفل حار. وبمعنى أنه يؤثر في الملمس حرارة،كقولنا: الهواء حار. وبمعنى أن الغالب من استقصائه الحار، كقولنا: القلب حار. وبمعنى أن العضو A المتكون منه حار، كقولنا: الدم حار. وبمعنى أنه إذا ورد على البدن وانفعل عن حرارته أثر فيه حرارة فوق التي كانت له، كقولنا: دواء كذا حار. وبمعنى أنه أميل عن الاعتدال الحقيقي إلى الحرارة، كقولنا: الذكران أحر من الإناث. وبمعنى أنه أعطى مزاجا أكثر حرارة مما ينبغي أن يكون له كقولنا فلان حار المزاج. وكذلك فافهم الحال البارد والمعتدل، إلا أنه لا يوجد فيهما للمعنيين الأولين مقابل مشهور. وإذا تبين ذلك فننظر أي المعاني يصح أن يراد بقوله الأغذية الرطبة، والذي نراه يصلح أن يكون مرادا، الذي بمعنى أنه إذا فعل فيه الحار الغريزي منا أثر فينا رطوبة أزيد؛ وذلك لأن حرارة الحمى يلزمها تجفيف لا محالة، والغذاء الرطب بذلك المعنى يتداركه. وكذلك الذي بمعنى أنه سريع الاستحالة إلى الخلط الرطب؛ لأن الغذاء التفه ينفع جميع المحمومين، من كان منهم به سعال أو ذات الجنب أو غير ذلك أو لم يكن. وفي أي حمى كان بخلاف الحامض، فإنه B قد يضر السوداويين، ومن حماه سوداوية، ومن به مع حماه سعال؛ وكذلك باقي الطعوم قد يضر في بعض الأشياء إلا التفه. وأظن هذا المعنى أولى (36) من الأول لأن من الحميات ما لا تنفعها الأغذية الرطبة بالمعنى الأول كالحمى البلغمية والحمى التي معها استسقاء، إلا أنه يمكن أن يقال أن المحموم المستسقى إذا أضرته الأغذية الرطبة بذلك التفسير فذلك لا لأنه محموم بل لأنه مستسق. قوله: "لاسيما الصبيان وغيرهم ممن اعتاد أن يغتذي بالأغذية الرطبة" وذلك لأن المرطوب المزاج يكون التحليل من بدنه بالحرارة أكثر، فيكون الغذاء الرطب بالمعنى الذي لخصناه أولى له. والمرطوب إما بأصل الطبع كالنساء، أو بالسن كالصبي، أو بالكسب كالذي اعتاد الأغذية الرطبة؛ وفي حكم ذلك المزاج الطبيعي، والوقت الحاضر من أوقات السنة والبلد.
[aphorism]
صفحه ۵۰